أثر التضليل المعلوماتي والتزييف العميق على حياة السودانيين أثناء الحرب
منذ اندلاع النزاع المسلح في السودان في 15 إبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، شهدت البلاد أزمة إنسانية حادة. وفقًا لتقرير صادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، قُدّر عدد القتلى بأكثر من 61,000 شخص خلال الأربعة عشر شهرًا الأولى من الصراع، مع تسجيل أكثر من 20,000 حالة قتل في ولاية الخرطوم وحدها.
بالإضافة إلى ذلك، تسببت الحرب في نزوح واسع النطاق للسكان، فقد أُجبر أكثر من 14 مليون شخص، أي نحو 30% من سكان السودان على النزوح من ديارهم، مع تسجيل 11 مليون نازح داخليًا و3.1 مليون لاجئ في البلدان المجاورة. تُظهر هذه الأرقام حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها السودان نتيجة هذا النزاع المستمر.
ومنذ بداية الحرب السودانية، انتشرت العديد من المعلومات المضللة التي تسببت في زيادة التوتر وتأجيج العنف بين الطرفين، والتي دأب فريق مسبار على تفنيدها وتصحيحها منذ بداية الحرب. وفي هذا التقرير يقدم لكم "مسبار" أهم التقارير الدولية عن تفاقم ظاهرة المعلومات المضللة، نشأتها وتأثيرها على العامة من المستخدمين.
استخدام التزييف العميق في حرب المعلومات المضللة بالسودان
نُشر تقرير على موقع أفريكان أرجيومنتس في أكتوبر/تشرين الأول عام 2024، يوثق فيه الحرب المعلوماتية المندلعة بين طرفي النزاع في السودان، إذ يؤكد الكاتب أنّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة معركة بديلة تُستخدم فيها تقنية "التزييف العميق" (Deepfake) على نطاق واسع لنشر أخبار زائفة وكسب المزيد من المؤيدين، ويشكل هذا الاتجاه تهديدًا خطيرًا في بلد يعاني من حاجة ماسة إلى بيئة معلوماتية صحية.
على سبيل المثال يقول التقرير استُخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد مقاطع فيديو مزيفة منذ الأيام الأولى للحرب السودانية المستمرة. ففي أغسطس/آب 2023، كشفت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية عن مقطع فيديو يظهر فيه السفير الأميركي في السودان وهو يقول إنّ الولايات المتحدة لديها خطة للحد من تأثير الإسلام في البلاد، وهو ما اتضح زيفه فيما بعد.
أما في أكتوبر 2023، كشفت تحقيقات أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن حملة استخدمت الذكاء الاصطناعي لانتحال صوت الرئيس السوداني السابق عمر البشير، إذ حصدت هذه المقاطع مئات الآلاف من المشاهدات على تطبيق تيك توك.
وفي السياق ذاته تحديدًا مارس/آذار 2024، نشر حساب على موقع إكس لمذيع تلفزيوني وإذاعي تسجيلًا صوتيًا نُسب إلى قائد القوات المسلحة السودانية، تضّمن أوامر بقتل المدنيين ونشر القناصة، واحتلال المباني. وشُوهد هذا التسجيل المُزيف، الذي وُلّد باستخدام الذكاء الاصطناعي 230 ألف مرة، وجرى تداوله من قبل مئات المستخدمين، من بينهم شخصيات سياسية سودانية معروفة.
وفي إطار دعم قطاع الإعلام في السودان، نظمت اليونسكو بالتعاون مع مفوضية حقوق الإنسان، لقاء عن بعد في مايو/أيار 2024 بالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة، أكدت فيه منصة "بيم ريبورتس" (منصة تحقق سودانية)، على التحديات التي فرضها استخدام الذكاء الاصطناعي في الأشهر الأخيرة.
وصرّحت اليونسكو في بيان عقب الحدث بأنّ "بيم ريبورتس أكدت بعد عام من مكافحة المعلومات المضللة عبر الإنترنت، أنّ غياب التغطية الصحفية الميدانية يؤدي إلى زيادة الأخبار الكاذبة والمضللة". وأضافت أنّ "استخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج ونشر المعلومات المضللة وخطاب الكراهية زاد من تعقيد هذه الظاهرة".
من ناحية أخرى، أشارت شيرين أنلين، وهي متخصصة في الإعلام لدى منظمة "ويتنس"، إلى أنّ "أكبر تحدٍ في كشف التزييف العميق هو نقص الأدوات الموثوقة". وأوضحت أنّ "على الرغم من وجود أبحاث واعدة في هذا المجال، إلا أنها غالبًا ما تكون غير متاحة للعامة، وتتطلب خبرة تقنية عالية. كما أنّ الأدوات المتاحة للجمهور قد تكون معقدة الفهم بسبب نقص الشفافية والوضوح في نتائجها، مما يترك المستخدمين في حالة من الشك، لا سيما عندما تنتج هذه الأدوات أخطاءً إيجابية كاذبة، وهو أمر شائع".
وأضافت "من الناحية التقنية، تعتمد هذه الأدوات بشكل كبير على جودة وتنوع بيانات التدريب، وهو ما يشكل تحديات، خاصة فيما يتعلق بالتحيز تجاه أنواع معينة من التلاعب أو الشخصيات أو جودة الملفات". وأشارت إلى أنّ "ضغط الملفات ودقة الفيديو لهما دور كبير في دقة الاكتشاف".
ووفقًا لمحمد صبري، الباحث السوداني في مجال الذكاء الاصطناعي في جامعة دبلن سيتي، فإنّ "معظم مقاطع التزييف العميق المتداولة في السودان يسهل كشف زيفها بسبب جودتها الرديئة، ويُعزى ذلك إلى نقص البيانات المدربة على اللهجات السودانية". لكنه حذّر من أنه "مع استثمار الجهات الخبيثة المزيد من الوقت والمال في التكنولوجيا المتقدمة، فقد يصبح إنتاج هذا المحتوى أكثر إقناعًا".
المعلومات المضللة تزيد من معاناة السودانيين أثناء الحرب
على صعيد آخر، نشرت منظمة سميكس غير الربحية، تقرير آخر حذر من انتشار المعلومات المضللة في خضم بدايات الحرب السودانية، وأكد على أنّ المعلومات المضللة غالبًا ما تدار من قبل جهات حكومية ومنافسين سياسيين يسعون إلى نشر دعايتهم، للتأثير على الرأي العام. ومن بين أخطر عواقبها أنها تعرض الفئات الأكثر ضعفًا للخطر. ففي أوقات النزاعات والنزوح، عندما يكون الوصول إلى الضروريات الأساسية مثل الغذاء والمياه محدودًا، يعتمد كثيرون على المعلومات الصادرة عن المصادر الرسمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها طوق نجاة.
وفي هذا السياق، قالت الناشطة الحقوقية السودانية الأميركية، عزاز الشامي، في مقابلة مع المنظمة "يبحث الفارّون من النزاع عن التوجيهات والموارد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الحسابات المزيفة تستغل حالة الهلع العام لخداعهم وتضليلهم".
وأفاد التقرير أنّ حساب قوات الدعم السريع السابق على موقع إكس، حمل علامة التوثيق الزرقاء، ويتابعه أكثر من 100 ألف شخص، ويعد أداة رئيسية في نشر المعلومات المضللة. فرغم أنّ هذه الميليشيا ارتكبت جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في السودان، حسب التقرير، إلا أنّ صفحتها ظلت تعمل لفترة كبيرة دون قيود، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام المنصة بحماية حقوق الإنسان.
ويؤكد التقرير من جانبه، أنّ موقع إكس قد ساهم في تعزيز وجود قوات الدعم السريع عبر إتاحة منصة رسمية لها لنشر أجندتها الدعائية. فعلى سبيل المثال، خلال هجوم على العاصمة السودانية في 12 مايو عام 2023، نشرت قوات الدعم السريع منشورات مضللة زعمت فيها سيطرتها الكاملة على الخرطوم، بينما أكدت مصادر إعلامية موثوقة ومصادر قريبة من منظمة سميكس استمرار القتال في المدينة، ما يتناقض مع مزاعم الميليشيا.
شنت قوات الدعم السريع أيضًا حملة تشويه ضد الجيش السوداني على موقع إكس، متهمةً إياه باستهداف المدنيين. ونشرت هذه الادعاءات باللغتين العربية والإنجليزية بهدف التأثير على الرأي العام محليًا ودوليًا.
وفي هذا السياق، أوضحت عزاز الشامي لسميكس أنّ "النزاع في السودان يحمل طابعًا استقطابيًا حادًا، والخطاب السياسي منقسم بشدة"، مشيرةً إلى أنّ قوات الدعم السريع تستغل إكس لصياغة سردية إشكالية عبر الإنترنت. وأجرى مستشار الأبحاث الرقمية في المنظمة تحليلًا لمنشورات قوات الدعم السريع بين 15 إبريل و15 مايو 2023، كاشفًا عن استراتيجيتها في توجيه الأجندة الإعلامية.
ووفقًا لتقرير صادر عن "كودا"، فقد اكتسب حساب مزيف على إكس، ينتحل صفة الحساب الرسمي لقوات الدعم السريع في السودان، شعبية واسعة بسبب سياسة التوثيق المدفوعة التي أقرها إيلون ماسك. وزعم هذا الحساب كذبًا وفاة قائد قوات الدعم السريع، وهو ادّعاء من شأنه أن يغيّر مسار النزاع في السودان.
يسلط هذا الأمر الضوء على كيفية مساهمة السياسات الربحية في إكس، في نشر المعلومات المضللة أثناء النزاع السوداني، ما يعرّض ملايين السودانيين للخطر من خلال التلاعب بالمعلومات.
وفي هذا السياق، قالت عزاز الشامي للمنظمة، إنه لدى إكس سابقًا تدابير فعالة للحفاظ على نزاهة المنصة، وكانت هذه التدابير قادرة على رصد الحملات الخبيثة. من الضروري إعادة تفعيل سياسات مماثلة، لا سيما عندما يكون المحتوى المتداول قادرًا على التسبب في أضرار فعلية في مناطق النزاع".
تشمل هذه السياسات التراجعية التي أقرها ماسك أيضًا الترويج للصفحات المرتبطة بالحكومات، بالإضافة إلى فرض قيود على واجهة برمجة التطبيقات (API) الخاصة بـ"إكس". ورغم حذف الحساب المزيف الذي كشفه تقرير "كودا"، فإنّ العديد من الحسابات الأخرى ما تزال تساهم في نشر المعلومات المضللة في السودان.
كما أبلغ مختبر DRFLab عن أنشطة غير موثوقة مرتبطة بحسابات قوات الدعم السريع على إكس، إذ رُصد ما لا يقل عن 900 حساب مخترق يُستخدم بشكل منهجي لإعادة نشر تغريدات قوات الدعم السريع والتفاعل معها، ما يخلق وهمًا بشعبيتها على الإنترنت.
وفي هذا الصدد، قالت وفاء هيكل، محللة وسائل التواصل الاجتماعي في منظمة الديمقراطية الدولية، لسميكس "تعد الحملات المنظمة التي تعتمد على سلوك غير موثوق من أبرز الأساليب التي يستخدمها الفاعلون الخبيثون للتلاعب بخوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وزيادة التفاعل عبر الإنترنت، وهذا ما نشهده في السودان حاليًا". مضيفة "إنها معركة للسيطرة على السردية، خاصة أمام المجتمع الدولي".
وأشار تحليل آخر أجراه مختبر "سوشيال بليد" لنشاط قوات الدعم السريع على "إكس"، إلى أنّ الحسابات المخترقة ساهمت في تضخيم نسبة التفاعل وزيادة عدد المتابعين بشكل غير طبيعي.
بروباغندا الحرب في السودان
وفي السياق ذاته، نشر موقع أفريكان ديجيتال ديموكراسي أوبسرفاتوري في نهاية عام 2024، تقريرًا مفصلًا عن بروباغندا الحرب في السودان وكيفية تأثيرها على الواقع السوداني. إذ يؤكد التقرير أنّ بعض العبارات والجمل تُستخدم بشكل مكثف ومتكرر في حملات الدعاية الحربية، إذ تترسخ في أذهان المتلقين وكأنها حقائق مطلقة. يُعد هذا أحد أساليب الدعاية الحربية التي استُخدمت في الحرب السودانية، حيث لجأ أطراف النزاع، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إلى هذه التقنية.
فنجد أنّ قوات الدعم السريع استخدمت وسم "#معركة_الديمقراطية" في معظم منشوراتها المتعلقة بالحرب، إن لم يكن جميعها في محاولة لتعزيز المبرر الذي تقدمه لشن الحرب، وهو "السعي نحو الديمقراطية".
من ناحية أخرى، يستخدم الجيش السوداني وسم "#معركة_الكرامة" في جميع منشوراته على حسابه الرسمي في فيسبوك، ويُعد هذا الوصف الرسمي للمعركة في خطابه العسكري. ويؤكد قادته أنهم يقاتلون من أجل "كرامة السودان وشعبه".
وفي إطار الدعاية المضادة، استخدم الجيش وسم "#مليشيا_الدعم_السريع_الإرهابية" في العديد من منشوراته.
استُخدمت هذه التقنية مع وسوم أخرى، مثل "#بل_بس" وشعارات أخرى رافقت الحرب وانتشرت من خلال حملات الدعاية الحربية. إذ يستخدم مؤيدو الحرب في السودان وسم "#بل_بس"، وهو مصطلح عامي شائع في السودان يُشجع على استمرار القتال حتى القضاء على العدو.
وبهذه الطريقة، انتشر استخدام هذا الشعار "الوسم" على نطاق واسع، وأصبح يُستخدم بشكل مكثف في حملات الدعاية الحربية.
التحريض على التعصب والقبلية واستخدام خطاب الكراهية
يؤكد التقرير أيضًا على أنّ التحريض على الفتنة والنزاعات القبلية تعد من أهم أساليب الدعاية الحربية التي تستخدمها الأطراف المتورطة في الحرب، لخلق حالة من الانقسام والتفكك داخل المجتمع. وهذا ما حدث في السياق السوداني، إذ أغرقت الدعاية الحربية منصات التواصل الاجتماعي بتعبيرات عنصرية وخطاب كراهية، صوّرت الحرب في السودان على أنها ذات "دوافع عرقية وإقليمية".
على سبيل المثال، منذ بداية الحرب، تعمدت بعض الجهات وصف الصراع في السودان بأنه "نزاع إقليمي"، وتصويره على أنه "حرب أهلية بين مكونات قبلية ومجتمعية داخل السودان". ورغم أنّ بعض الأطراف قد ترى أنّ هذه الحرب تحمل أبعادًا "إقليمية أو عرقية"، إلا أنّ ذلك لا يمثل جوهر الأزمة، ومع ذلك، جعلت حملات الدعاية الحربية من هذا التصور حجر الأساس في الحرب السودانية.
ويستشهد التقرير بفريق بيم السوداني للتحقق، إذ قال إنّ حملات الدعاية الحربية سعت إلى صياغة سردية تربط بعض القبائل بدعم قوات الدعم السريع، وأخرى بدعم الجيش السوداني، ما أدى إلى انتشار واسع لخطاب الكراهية ضد بعض القبائل في غرب السودان، إذ وُصفت بأنها "جزء من قوات الدعم السريع". كما أشارت بعض الحملات الدعائية إلى أنّ أحد أسباب الحرب هو الخلل في التنمية بين المناطق الريفية والحضرية في البلاد، ما أضفى بعدًا إقليميًا على الحرب.
كما استُخدمت حملات الدعاية الحربية العديد من التعبيرات العنصرية لوصف بعض قبائل غرب السودان، خصوصًا المسيرية والرزيقات، إذ واجهت هذه القبائل موجات من خطاب الكراهية المنسق من قبل حملات الدعاية الحربية. وقد زاد استخدام أسماء هذه القبائل في خطاب الكراهية والمنشورات التي تتناول الحرب بشكل ملحوظ.
مخاطر التضليل المعلوماتي وانتشاره خلال الأزمات والحروب
في تقريره عن الحرب المعلوماتية في السودان، أكد معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، أنّ خطر الحملات الرقمية يكمن في تعريض حياة الملايين من الفئات الأكثر ضعفًا في السودان للخطر. ففي أوقات النزاع أو النزوح، يلجأ الذين يسعون للفرار من المناطق المتأثرة بالحرب إلى مواقع التواصل الاجتماعي للحصول على إرشادات محدثة وموارد ضرورية، لكنهم غالبًا ما يجدون حسابات مزيفة تستغل حالة الذعر التي يعيشونها وتضللهم.
وجاء في التقرير أنه أثناء الوصول إلى احتياجات أساسية مثل الطعام والماء والأدوية، اعتمد المواطنون السودانيون العالقون في النزاع بشكل كبير على المعلومات الصادرة عن المصادر الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها شريان حياة. غير أنّ حملات التضليل الإعلامي قوضت هذه المصادر، إذ أفاد العديد من المواطنين بأنهم خططوا لتحركاتهم في المناطق المتضررة بالاعتماد على المعلومات المنشورة عبر الإنترنت، ليكتشفوا لاحقًا أنها كانت جزءًا من حملة تضليل، مما عرض حياتهم للخطر.
لقد أعاقت الحرب بالفعل المساحة المدنية في السودان، وتعمل هذه الدعاية على تفاقم الوضع من خلال تقييد الفضاء الإلكتروني المتاح للمدنيين للمشاركة في الحوارات السياسية. كما تواصل هذه الحملات تعميق الانقسام واستقطاب المجتمع السوداني.
اقرأ/ي أيضًا