أخبار

أحداث الساحل السوري: تحقيق عن عمليات قتل المدنيين في بانياس

محمد العترمحمد العتر
date
12 أبريل 2025
آخر تعديل
date
4:30 ص
21 أبريل 2025
أحداث الساحل السوري: تحقيق عن عمليات قتل المدنيين في بانياس
يكشف تحقيق مسبار عن وجود مقبرتين جماعيتين لمدنيين قُتلوا في بانياس | مسبار

في مايو/أيار 2013، شهدت مدينة بانياس وقائع قتل جماعي وصفتها منظمات حقوقية بـ"المجازر الطائفية"، راح ضحيتها مئات المدنيين. وبعد أكثر من عقد، يتكرر المشهد، وذلك في موجة عنف اجتاحت مدن الساحل السوري لأربعة أيام على الأقل بين السادس والعاشر من مارس/آذار الفائت.

بعد أقل من ثلاثة أشهر على سقوط نظام الأسد، شهدت مدن ومناطق في الساحل السوري أحداث عنف، إثر اشتباكات بين قوات أمنية تابعة للحكومة الجديدة ومجموعات مسلحة موالية للنظام السابق. بدأت الاشتباكات في السادس من مارس/آذار 2025، واستمرت لأربعة أيام، إلى أن أعلنت السلطات السورية الجديدة، في 10 مارس، إنهاء العملية العسكرية. وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن أكثر من نصف القتلى المدنيين، وتحديدًا 420 من أصل 803، قُتلوا على يد قوات الأمن والفصائل الموالية لها. 

أجرى "مسبار" تحقيقًا كشف عن وجود مقبرتين جماعيتين لمدنيين قُتلوا في بانياس، إلى جانب عمليات قتل متعمّدة داخل المدينة، وذلك بالاستناد إلى مقابلات مع مواطنين من سكان بانياس وريفها، وتحليل مواد بصرية وصور أقمار صناعية حصرية من Planet Labs PBC.

ماذا حصل في 7 مارس في بانياس؟

بدأت الاشتباكات في السادس من مارس، عندما شنّ مسلحون موالون لنظام الأسد، يُعتقد أنهم يتبعون لمقداد فتيحة، قائد ما يُعرف بـ"لواء درع الساحل"، سلسلة هجمات متزامنة على مواقع عسكرية وأمنية تابعة للحكومة المؤقتة، شملت جسر بانياس، ومخفر المدينة، ونقاطًا أمنية في منطقة القدموس المجاورة.

وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، قتلت المجموعات المسلحة الموالية للنظام السابق ما لا يقل عن 172 من عناصر القوات الأمنية والعسكرية التابعة للحكومة المؤقتة خلال تلك الهجمات وفي الاشتباكات التي تلتها. فيما بلغ عدد القتلى المدنيين الذين سقطوا نتيجة إطلاق النار المباشر من قبل المسلحين المرتبطين بنظام الأسد ما لا يقل عن 211 مدنيًا.

أما المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد وثق في تقرير صدر بتاريخ 26 مارس 2025، مقتل 273 عنصرًا من قوات الأمن التابعة للحكومة، مقابل 259 من المسلحين الموالين للنظام السابق. فيما بلغ إجمالي الضحايا المدنيين الذين وثّقهم المرصد 1628 مدنيًا، بينهم 503 من محافظة طرطوس. وقد تركزت أغلب عمليات قتل المدنيين في بانياس، التي شهدت في يوم واحد مقتل أكثر من 60 مدنيًا، وفقًا للمرصد.

مقبرة جماعية في قرية سريجس في ريف بانياس

رغم إعلان السلطات السورية إنهاء العملية العسكرية في 10 مارس، ما تزال آثارها مستمرة في بانياس، حيث رفض كثير من سكانها الإدلاء بشهاداتهم بشأن المجازر. من بين ما لا يقل عن تسعة مصادر من سكان المدينة حاول "مسبار" التواصل معهم، وافق خمسة فقط على الحديث بشرط عدم الإفصاح عن هوياتهم. قال أحدهم "لا أستطيع التصريح بأي كلمة بدون ضمانات بألا أتعرض للتهديد".

شاهد من بانياس

خلال فترة إعداد التحقيق، تعرّضت بانياس وقرى مجاورة لها لموجات متتالية من الانتهاكات، شملت عمليات تمشيط نفذتها قوات أمنية تابعة للحكومة، تخللتها اقتحامات منازل، ومطالبات بتسليم لأسلحة ذكر سكان محليون أنهم لا يملكونها.

يقول أحد أبناء قرية سريجس -وهو من سكان حي القصور في بانياس- إنه خرج قسرًا من منزله إلى قريته بعد اندلاع الاشتباكات. ويضيف أن قوات أمنية طالبت في 29 مارس سكان القرية بتسليم أي أسلحة لديهم، وحين نفوا امتلاكهم لأي سلاح، أُمروا بتسليم بنادق صيد وذخيرتها، وحتى فوارغ الطلقات.

مقبرة جماعية في قرية سريجس في ريف بانياس

رغم أن قرية سريجس لم تشهد اشتباكات مباشرة، إلا أن عددًا من أبنائها قُتلوا في المجازر التي وقعت في حي القصور في بانياس. كما وثّق "مسبار" مقبرة جماعية تضم جثامين مدنيي سريجس الذين قتلوا في حي القصور، من خلال تدقيق صور نشرتها صفحة "أخبار سريجس الملتقى" على فيسبوك لمشاهد دفن الضحايا، ومطابقتها مع خرائط الأقمار الصناعية، ومراجعة صور أقمار صناعية مصدرها Planet Labs PBC.

منذ 2012 تنشر صفحة "أخبار سريجس الملتقى" على فيسبوك أخبارًا وصور ومقاطع فيديو من قرية سريجس. وفي مساء الثامن من مارس 2025 نشرت الصفحة صورًا لتشييع جثامين ثلاثة من أسرة واحدة، قتلوا في بانياس: وهيبة سلوم ونجليها إبراهيم عيسى نزهة، وشقيقته نور. وفي وقت مبكر من اليوم نفسه، نشرت الصفحة صورًا لتشييع جثمان الابنة الثالثة هزار عيسى نزهة. 

أخبار سريجس الملتقىأخبار سريجس الملتقى

بعد تحديد موقع قرية سريجس، الواقعة على بُعد نحو 13 كيلومترًا من بانياس، تمكن مسبار من تحديد موقع المقبرة الجماعية خلف مدرسة الشهيد مهند يونس، من خلال عناصر بارزة في الصور، مثل الأشجار التي حُفرت تحتها المقابر، والرصيف الحجري الموازي، والمبنى المقابل، ومطابقتها بصورة Google Earth Pro. 

مقبرة جماعية قرية سريجس

في مساحة ضيقة بين المدرسة ومقام الشيخ خليل يونس، تقع مقبرة أخرى تُعرف باسم "مقبرة الشهداء"، تضم شواهد قبورد تعود لجنود في جيش النظام السابق، وهي تختلف عن المقبرة الجماعية التي حفرها أهالي القرية لدفن المدنيين من ضحايا مجازر مارس 2025.

تتطابق هذه النتائج مع صور أقمار صناعية حصل عليها مسبار من Planet Labs PBC، التقطت في 11 مارس، وتُظهر تغيرًا في التربة في موقع الدفن نفسه لم يكن موجودًا قبل الثامن من الشهر نفسه، ويُمكن ملاحظة ذلك من خلال انعكاس الضوء على سطح الأرض في صور القمر الصناعي.

صور أقمار صناعية حصل عليها مسبار من Planet Labs PBC

كما أكد أحد سكان سريجس لـ"مسبار"، موقع المقبرة الجماعية، وأفاد بأسماء 10 أشخاص دفنوا فيها، بينهم أفراد عائلة نزهة سابقي الذكر، وفرد آخر من العائلة هو ابن عمهم زياد إسماعيل نزهة، طبيب مختص في جراحة المسالك البولية تقع عيادته في شارع زكي الأرسوزي، ويعمل كذلك في مستشفى بانياس الوطني.

ضحايا عائلة نزهة في بانياسمحاضرة لزياد نزهة في مستشفى بانياس الوطني (مستشفى إياد إبراهيم سابقًا) في أكتوبر/تشرين الأول 2023 (صفحة مستشفى بانياس الوطني)

حي القصور في بانياس

في السابع من مارس، وبعد يوم من الهجمات التي شنّها العناصر الموالون للنظام السابق على مقار أمنية حكومية، نفّذت القوات الحكومية قصفًا براجمات صواريخ، قالت إنه استهدف مليشيات من فلول النظام السابق. ويُظهر مقطع فيديو نشره جميل الحسن، الناشط الإعلامي المقرب من الحكومة الجديدة، القصف الذي نفذته القوات الحكومية في بانياس. ويتضح من مطابقة الفيديو بخرائط Google Earth Pro أنه التقط من كورنيش بانياس الجنوبي، حيث كانت الراجمات موجهة نحو الشمال.

قصف حي القصور في بانياس

يُشاهَد في الفيديو عمود دخان يتصاعد من قلب المدينة، يُرجّح أنه من حي القصور. يقول جميل الحسن، إن الدخان ناجم عن "أعمال العنف التي مارستها مليشيات النظام السابق"، بينما أكد شهود تحدثوا لـ"مسبار" أن مبانٍ في حي القصور أصيبت بقذائف هاون أطلقتها القوات الحكومية.

وبحسب أحد السكان، أصيب منزل عائلة عيسى نزهة بقذيفة هاون، قبل ساعات قليلة من اقتحام المنزل وقتل أفراد العائلة، فيما نجا الوالد -عيسى نزهة- لأنه كان في قرية سريجس يومئذ. أما زوجته وهيبة سلوم وأبناؤه إبراهيم ونور وهزار، فقُتلوا جميعًا. كانت نور تستعد لخطبتها، وهزار حامل بطفلها الأول، إذ لم يكن قد مضى على زواجها سوى أربعة أشهر حين قتلت في بيت أهلها.

في اليوم التالي، قُتل ابن عمهم، زياد إسماعيل نزهة، في منزله، وكانت الأم شاهدة على قتله.

الصورة على اليسار للأشقاء الثلاثة نور وإبراهيم وهزار، والصورة على اليمين لوالدتهم وهيبة سلوم ونور (مواقع التواصل الاجتماعي)
الصورة على اليمين للأشقاء الثلاثة نور وإبراهيم وهزار، والصورة على اليسار لوالدتهم وهيبة سلوم ونور

لم تكن نزهة العائلة الوحيدة من قرية سريجس التي قتلت في مجزرة بانياس، قُتل أيضًا، من أبناء القرية، أربعة من أفراد عائلة سلوم: حيدرة سلوم، وأمين سلوم وزوجته ندى سلوم، بالإضافة إلى وهيبة سلوم زوجة عيسى نزهة. كما قُتل اثنين من عائلة يونس: يوشع وحسن.

تحقق "مسبار" من أسماء هؤلاء الضحايا عبر أحد سكان سريجس، كما نشر أقاربٌ لعائلات الضحايا أسماء ذويهم الذين قتلوا في بانياس.

أحد سكان سريجس أرسل إلى مسبار أسماء القتلى من أبناء القرية

هنا قُتل حسن علي يونس

خلال تلك الأحداث وُثِّقت لحظة مقتل حسن علي يونس بكاميرا أحد الجيران، كما التقطت زوجته، ثناء عليان، صورة لجثته مضرجة بالدماء أسفل شرفة المنزل. قُتل حسن يونس عمدًا أمام مدخل منزله، في شارع كان خاليًا تمامًا من المارة. يُظهر الفيديو القاتل، مسلحًا ملثمًا، بينما حسن يونس يرتدي زيًّا رياضيًا أزرق.

تُظهر الثواني الأولى من الفيديو تقلب حسن على الأرض، ما يشير إلى إصابته دون أن يفارق الحياة فورًا، قبل أن ينهي المسلح حياته بطلق ناريّ أخير.

استطاع "مسبار" تحديد موقع عملية القتل في حي القصور شرقي مدرسة فايز خليل الصناعية، وذلك من خلال مطابقة معالم الفيديو مع صور الأقمار الصناعية، وإفادة مصدر مقرب من عائلة يونس.

أحد سكان سريجس أرسل إلى مسبار أسماء القتلى من أبناء القرية

قال أحد زملاء حسن لـ"مسبار" إنه كان معارضًا لنظام الأسد، لكن ذلك لم يحمه. قُتل حسن في السابع من مارس، ودُفن في 10 من الشهر نفسه، في قريته سريجس. العديد من جثث الضحايا بقيت لأيام في شوارع بانياس، خاصة حي القصور. 

حاول "مسبار" التواصل مع زوجة حسن، لكنها لم ترد على الأسئلة، وأغلقت حسابها على فيسبوك بعد أن حذفت أو غيّرت خصوصية بعض المنشورات، من بينها منشور نعيه والصورة التي التقطتها لجثته. وفي اليوم التالي لمقتله، نشر أحدهم على حسابه صورة قديمة له مرتديًا الزي الرياضي الأزرق نفسه الذي قُتل به.

على اليمين صورة التقطتها زوجته بعد مقتله (التشويش ليس في الصورة الأصلية) وعلى اليسار صورة قديمة له
على اليمين صورة التقطتها زوجته بعد مقتله (التشويش ليس في الصورة الأصلية) وعلى اليسار صورة قديمة له 

مقبرة جماعية عند الشيخ هلال في بانياس 

بحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتل في بانياس ما لا يقل عن 179 شخصًا، بينهم تسعة أطفال و28 امرأة و24 من العاملين في القطاع الطبي، فيما تداول مستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي قوائم قالوا إنها تضم أسماء ضحايا مدنيين في بانياس. من بين هذه القوائم، نشر حساب نبيه محمد نبهان قائمة تضم أسماء 1152 شخصًا قال إنهم قُتلوا في مجازر الساحل السوري.

حلل "مسبار" هذه القائمة، وبعد تنقيحها من الأسماء المكررة، والتي قيل إنها لمصابين أو أشخاص مجهولي المصير، تبين أن عدد القتلى المدنيين في بانياس وفقًا للقائمة بلغ 260 شخصًا على الأقل. لم يتسنّ لمسبار التحقق من جميع الأسماء، لكن تعرّف على 35 اسمًا سبق أن تحقق منهم من مصادر مختلفة، معظمهم من سكان حي القصور.

نشر موقع Eyes On Syria قوائم بأسماء 52 شخصًا قال إنهم من المدنيين الذين قُتلوا في مجزرة حي القصور، إلى جانب صور لعدد من الضحايا الذين سبق لـ"مسبار" التحقق من هوياتهم. العديد من ضحايا حي القصور، الذي يتركز فيه سوريون من الطائفة العلوية، دفنوا جماعيًا في قطعة أرض خلف مزارٍ ديني يعرف باسم مزار الشيخ هلال، على مقربة من كراج بانياس الجديد. ووفق الصور التي تم تحليلها، فإن قطعة الأرض هذه كانت تُستخدم سابقًا كمقبرة، ويمكن رؤية شواهد قبور فيها من خلال صور أقمار صناعية قديمة.

مقبرة جماعية عند الشيخ هلال في بانياس

لكن بعد مجازر السابع والثامن من مارس، توسعت أعمال الدفن في الأرض نفسها. وأظهرت صور أقمار صناعية حديثة من Planet Labs PBC تغيّرًا في شكل التربة في مساحة مجاورة للمقبرة القديمة، لم يكن موجودًا قبل 10 مارس. وفي صورة بتاريخ 15 مارس، يظهر اتساع رقعة انجراف التربة، ما يُرجح أن عمليات الدفن استمرت حتى ذلك التاريخ على الأقل.

مقبرة جماعية في بانياس

كما أكدت مصادر من سكان بانياس لـ"مسبار"، وجود مقبرة جماعية خلف مزار الشيخ هلال. ومن غير المعروف عدد الضحايا الذين دفنوا هناك، لكن يمكن ملاحظة شواهد قبور تعود لأسماء ضحايا وردت في القوائم السابقة.

الانتهاكات مستمرة في منطقة بانياس

لم تتوقف الانتهاكات في منطقة بانياس حتى بعد إعلان السلطات السورية إنهاء العملية العسكرية في الساحل السوري يوم 10 مارس. وخلال إعداد هذا التحقيق، وقعت عمليات قتل جديدة بحق مدنيين، منها لمواطنين في قرية حرف بنمرة. بينما كنا نتحدث إلى أحد المصادر من سكان بانياس لتوثيق الضحايا من أبناء قرية برمايا، أبلغ عن المجزرة الجديدة برسالة مقتضبة "اليوم كانت هناك مجزرة بقرية اسمها حرف بنمرة، قرب بانياس".

مجزرة بارمايا
قائمة ضحايا من قرية بارمايا

حدث ذلك في 31 مارس ، أول أيام عيد الفطر في سوريا واليوم الذي شهد أيضًا مقتل طفل بانياس صاحب الصورة في قرية حرف بنمرة.

مجزرة حرف بنمرة
على اليمين صورة طفل بانياس (التشويش ليس في الصورة الأصلية)، على اليسار رسمة للطفل 

الشرع يشكّل لجنة تحقيق في أحداث الساحل

في أعقاب الأحداث التي شهدتها محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة، والتي تمثلت في هجمات منسقة نفذتها مجموعات موالية للنظام السابق، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع قرارًا بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في تلك الأحداث، لتحديد المسؤولين عنها.
كان من المقرر أن تقدم اللجنة تقريرها إلى رئاسة الجمهورية خلال مدة أقصاها 30 يومًا من تاريخ صدور القرار، إلا أن قرارًا صدر من الرئيس الشرع يقضي بتمديد عملها لمدة ثلاثة أشهر إضافية.

اقرأ/ي أيضًا

الجاني يوثق الجريمة: مشاهد لانتهاكات الساحل السوري لا مؤشر على أنها مضللة

كيف ساهمت المعلومات المضللة في تأجيج أحداث الساحل السوري؟

المصادر

كلمات مفتاحية

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar