الحقيقة من الأعلى.. استخدام صور الأقمار الصناعية في تغطية الحروب
في حالات الحروب والنزاعات المسلحة، ينتشر التضليل والبروباغندا وتكثر الادعاءات الزائفة، خاصة من الأطراف المتحاربة، استغلالًا للأوضاع المعقدة على الأرض التي تصعب معها عمليات التحقق المستقل. وفي كثير من الأحيان، يُستخدم التضليل كجزء من أدوات الحرب أو للتهرب من المسؤوليات التي يفرضها القانون الدولي. مع ذلك، يبدو أن صور الأقمار الصناعية تقدم أداة موضوعية ومستقلة لتوثيق الحقائق، ما يساعد في كشف الحقيقة وسط هذا الغموض.
بصورة عامة، تنتشر المعلومات المضللة بشكل أسرع خلال الأزمات والحروب. ومع أن وسائل التواصل الاجتماعي فتحت آفاقًا أوسع للنقل والتوثيق الفوري والمستقل للأحداث، فإنها ساهمت أيضًا في تفاقم أزمة التضليل وانتشار الأخبار الزائفة، خاصة خلال الأزمات والحروب. وبحسب دراسة من معهد ماساتشوستس للتقنية، تنتشر الأخبار الزائفة على وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة أكبر بثلاث مرات من الأخبار الصحيحة، لكن في الحروب، تكون هذه السرعة مصحوبة بدوافع استراتيجية.
في ظل تلك الحال، تمثل إمكانية الحصول على أدلة مجردة للوقائع قيمة مضافة للوصول إلى الحقيقة. هنا يبرز الدور الذي يُمكن أن تقدمه صور الأقمار الصناعية في توثيق الحقائق بصورة مجردة، ومساحة أوسع من الاستقلالية. فعلى عكس أدوات أخرى، مثل الطائرات المسيرة، وحتى التصوير الفوتوغرافي التقليدي، تُعد الأقمار الصناعية أكثر موضوعية وأقل تدخلًا.
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
تمثل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة نموذجًا لمدى صعوبة ممارسة العمل الصحفي خلال الحروب. وبحسب إحصاءات لجنة حماية الصحفيين حتى فبراير/شباط 2025، قُتل منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ما لا يقل عن 167 صحفيًا فلسطينيًا، فيما يشير تقرير صادر عن مشروع "Costs of War" التابع لمعهد واتسون للشؤون الدولية، في إبريل/نيسان الجاري، إلى أن 232 صحفيًا وإعلاميًا قتلوا في غزة خلال الحرب الجارية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
إلى جانب التهديد الكبير الذي يطاول الصحفيين في غزة واستهدافهم عسكريًا بشكل مباشر، تكون التغطية الموسعة والسريعة للآثار الناجمة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع أكثر صعوبة. في المقابل، توفر صور الأقمار الصناعية نظرة سريعة وأكثر أمانًا للأحداث.
على سبيل المثال، نشرت وسائل إعلام في 17 يوليو/تموز 2024 صورًا لتعرض مباني الجانب الفلسطيني من معبر رفح للحرق والتدمير من قبل القوات الإسرائيلية. كانت إسرائيل قد بدأت اجتياحها البري لرفح وصولًا إلى المعبر قبل ذلك بنحو شهر. اعتمدت وسائل الإعلام في نقل أخبار وصور الدمار الذي حل بمبنى صالة المغادرة في معبر رفح على مراسليها في القطاع وصور نشرها صحفيون على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن ما نُشر في 17 يوليو، كانت صور الأقمار الصناعية تُظهره قبل ذلك بأيام عديدة، حيث كان من الممكن اكتشاف ما حدث منذ 13 يوليو على الأقل باستخدام صورة أقمار صناعية من شركة Planet Labs PBC، توضح الدمار الذي حل في صالة المغادرة وما حولها، مقارنة بصورة أخرى سابقة للمنطقة نفسها.
في رفح أيضًا، ساهمت صور الأقمار الصناعية في دحض أحد أكبر الادعاءات الإسرائيلية السياسية المضللة، والتي ساهمت الإدارة الأميركية أيضًا في الترويج لها، في نفس الوقت الذي كانت تتعرض فيه لضغوط كبيرة لمنع تزويد إسرائيل بأسلحة تستخدمها الأخيرة في إبادة جماعية وتدمير شامل للبنية التحتية في القطاع.
تمثل ذلك الادعاء في وصف العملية العسكرية البرية في رفح بـ"المحدودة". وكانت إدارة بايدن قد سبق أن أكدت، على لسان بايدن نفسه، أنه في حال نفذت إسرائيل اجتياحًا بريًا في رفح، فإنها ستمنع تزويدها بالأسلحة. تراجعت بعد ذلك الإدارة الأميركية عن تصريح بايدن، وربطت وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة، بـ"عملية عسكرية كبرى" في رفح.
وتجنبًا لمنع تزويد إسرائيل بالأسلحة، استمرت الإدارة الأميركية في وصف الاجتياح البري الإسرائيلي لرفح بـ"العملية المحدودة". لكن على عكس هذا الادعاء، كشف تحقيق لـ"مسبار" أن العملية العسكرية في رفح تسببت خلال وقت قصير في تدمير يفوق التدمير الذي شهدته مناطق أخرى في القطاع على مدار أشهر.
وأزالت العملية العسكرية في رفح كتلًا سكنية بالكامل، حيث تعرضت مناطق كاملة للتدمير بعمق يصل إلى كيلومترين اثنين، في محافظة يبلغ عمقها من الحدود مع مصر، على أقصى تقدير 4.5 كيلومترًا.
استند تحقيق مسبار إلى تحليل صور أقمار صناعية حصل عليها من منصة Sentinel-Hub التي توفر وصولًا مجانيًا لصور أقمار Sentinel وLandsat لمدة 30 يومًا، مع مؤشرات آلية متعددة ونطاقات طيفية تساعد في تحليل الصور أو تحسينها، إضافة إلى إمكانية تعديل ألوان الصورة للحصول على رؤية أفضل.
هناك أيضًا منصة Copernicus التي توفر وصولًا مجانيًّا لصور أقمار Sentinel. وتشمل أقمار Sentinel ستة أقمار صناعية ذات مهام مراقبة محددة، أطلقتها وكالة الفضاء الأوروبية. توفر أيضًا المنصة تعديلًا لألوان الصورة، ووصولًا للنطاقات الطيفية المختلفة لكل قمر صناعي.
توفر أقمار Sentinel صورًا بدقة تصل إلى 30 مترًا. هذه الدقة المتوسطة قد لا تكون فعالة دائمًا في مراقبة العناصر الصغيرة، لكنها بالتأكيد ذات فاعلية للكشف عن التغيرات على مساحة أكبر، مثل رصد آثار التدمير في مدينة رفح على مدار أوقات مختلفة.
التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية
من خلال التكامل بين الأدوات والبيانات المفتوحة للأقمار الصناعية، تمكن مسبار باستخدام صور متوسطة الجودة من أقمار Sentinel من تحديد مواقع ست بؤر عسكرية إسرائيلية داخل الأراضي السورية بدأ العمل على إنشائها منذ يناير/كانون الثاني 2025، فيما يُعد تناقضًا مع تأكيد إسرائيل سابقًا بأن وجود قواتها في سوريا "مؤقت".
واعتمد التحليل الذي أجراه مسبار لتوثيق مواقع البؤر العسكرية الإسرائيلية في سوريا، إلى إجراء مقارنات بين صور الأقمار الصناعية قبل الاجتياح الإسرائيلي لسوريا وبعده، حيث يكشف الترتيب الزمني للصور عن التغيرات على الأرض، فيمكن ملاحظة الطرقات التي تم شقّها، والمساحات الممهدة لتكون تمركزًا للآليات.
استند مسبار كذلك إلى مقاربة تلك البؤر العسكرية بمثيلاتها في قطاع غزة، حيث تتوفر صور أقمار صناعية بدقة أعلى. ومن خلال هذه المقاربة، يُمكن فهم أن هذه المساحات ذات اللون المختلف في التربة، والتي أوجدت حديثًا، جنبًا إلى جنب مع خطوط الطرق التي شقت حديثًا؛ هي عبارة عن مناطق تمركز الآليات العسكرية الإسرائيلية.
مجازر الساحل السوري
في سوريا أيضًا، ساهمت صور الأقمار الصناعية في توثيق الانتهاكات التي وقعت في منطقة الساحل السوري ما بين 6 و10 مارس/آذار 2025. وفي الوقت الذي تعمل فيه لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الرئيس السوري أحمد الشرع للتحقيق في أحداث الساحل السوري. يُمكن أن تساهم التحقيقات التي جرت باستخدام صور الأقمار الصناعية في التحقق من صحة المواد البصرية التي توثق الانتهاكات، وأيضًا في توثيق المقابر الجماعية لضحايا عمليات قتل المدنيين.
بالاعتماد على صور الأقمار الصناعية وثقت شبكة سي إن إن مقبرة جماعية لضحايا تلك الأحداث في قرية الصنوبر. كما وثق مسبار باستخدام صور الأقمار صناعية حصل عليها من Planet، مقبرتين جماعيتين في قرية سريجس ومدينة بانياس، إضافة إلى التحقق من مقطع فيديو يُظهر قتل مدني في بانياس، عبر مطابقة موقع الجريمة جغرافيًا بصور الأقمار الصناعية.
توفر Planet صور أقمار صناعية تجارية متوسطة وعالية الجودة (تصل دقتها لـ30 سنتيمتر)، يمكن الحصول عليها بمقابل مادي لكل صورة حسب الطلب، وأيضًا من خلال منصة Planet Explorer، عبر مجموعة من الأقمار الصناعية التي تلتقط صورًا بشكل شبه يومي لعظم المناطق على الأرض. مع ذلك، ورغم أن خدماتها مدفوعة، توفر Planet بيانات وصور مجانية لصحفيين ومؤسسات صحفية موثوقة لديها مثل مسبار.
إضافة إلى الوصول إليها، يعتمد تحليل صور الأقمار الصناعية على العديد من المعطيات، من بينها فهم أنواع الأقمار الصناعية ومداراتها والبيانات التي تلتقطها. وتُساعد معرفة مدارات الأقمار الصناعية من تحديد القمر المناسب للتوقيت المطلوب. على سبيل المثال يلتقط Sentinel-2 صورًا لكل منطقة على الأرض كل خمسة أيام، ذلك بفضل وجود قمرين صناعيين ضمن مجموعة Sentinel-2. بينما يوفر قمري Landsat 8 وLandsat 9 تغطية كل 16 يومًا.
وللتوضيح، إذا كانت آخر صور التقطها Sentinel-2 لمداره فوق قطاع غزة بتاريخ 14 إبريل، فإن الصور القادمة ستكون بتاريخ 19 إبريل.
ورغم أن الدورة التكرارية لـSentinel-1 كل 12 يومًا، إلا أن استخدامه لتقنية رادار الفتحة التركيبية (Synthetic Aperture Radar) يجعله قادرًا على التقاط صور ليلية وفي ظل ظروف جوية سيئة بما في ذلك الغيوم. لكن، ولأنه أيضًا يستخدم تقنية الرادار فإن صوره ليست بالألوان. ورغم صعوبة تحليل الصور بالأبيض والأسود، إلا أنها ميزة تساعد في رصد التغييرات على سطح الأرض، وكذلك في المياه من خلال خفض ضجيج الألوان.
في الصورة التالية على سبيل المثال، يُمكن بوضوح رؤية بقعة زيت في مياه البحر المتوسط، أمام السواحل المصرية. التقطت الصورة بواسطة Sentinel-1 في السادس من أغسطس/آب 2024. ورغم أنها من على ارتفاع ثلاثة كيلومترات، إلا أن قدرة رادار الفتحة التركيبية على التقاط التغيرات على سطح المياه، مكّنت من رصد تلك البقعة الزيتية، وأيضًا مراقبة اتجاه تيارات المياه للتنبؤ بحركة البقعة.
تلعب التجربة والخبرة المتراكمة، إضافة إلى الدقة، أدوارًا أساسية في تحليل صور الأقمار الصناعية، بشكل يتفادى الوقوع في خطأ الخلط بين العناصر الثابتة والمتغيرات الناجمة عن انعكاس الضوء. بتعبير آخر: فهم تأثير الضوء على الصورة.
الصورتان التاليتان تمثلان نموذجًا لكيف يمكن أن تكون صور الأقمار الصناعية خادعة إذا لم تخضع للفحص والتحليل الدقيق. الصورتان لغرب مدينة رفح الفلسطينية، والتقطتا بفارق أيام قليلة.
في الصورة الثانية تبدو خيام النازحين أكثر مما هي في الصورة الأولى، لكن في الحقيقة عدد الخيام متماثل في الصورتين، وما تسبب في هذا الإيهام هو انعكاس الضوء في الصورة الثانية بسبب الغيوم.
إذًا رغم حياد الصورة الفضائية، فإن قراءتها تظل رهينة بخبرة المحلل ودقة أدوات التحليل، بل أحيانًا رهينة بسياق سياسي أو سردية يراد بناؤها. لذا فإن الاعتماد على صور الأقمار الصناعية لا يمكن أن يكون معزولًا عن تحقيق شامل، متعدد الأدوات والزوايا.
اقرأ/ي أيضًا
أحداث الساحل السوري: تحقيق عن عمليات قتل المدنيين في بانياس
الأقمار الصناعية والقانون الدولي يدحضان الذرائع الإسرائيلية لتوسيع احتلال الأراضي السورية