القتل عن بُعد: استخدام الطائرات المسيّرة في الحرب الإسرائيلية على غزة
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شكّل قطاع غزة مختبرًا لحرب تكنولوجية لا تتطلب دخول جنود إسرائيليين إلى المنازل. يكفي وجود مشغّل خلف شاشة، وكاميرا عالية الدقة، وخوارزمية لتتبع الحركة. ثم تُطلق الطائرة طلقتها، وغالبًا ما يكون الهدف عائلة بأكملها.
في هذا السياق، وثق "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" مثالًا على ذلك في حالة الفلسطينية سلاح محمد أحمد عودة، البالغة من العمر 52 عامًا، والتي قُتلت في 21 مايو/أيار 2024 بنيران مباشرة من طائرة إسرائيلية مسيّرة، أثناء محاولتها الفرار من مخيم جباليا للاجئين وهي تلوّح براية بيضاء، أمام أعين أفراد عائلتها.

من عيون في السماء إلى أدوات موت ذاتية التحكم
تجاوز استخدام الطائرات المسيّرة في الحرب الإسرائيلية الجارية في غزة الطابع التقليدي، ولم يعد مقتصرًا على مهام المراقبة أو الاستطلاع فقط، بل تحوّلت إلى أدوات قتل ذاتية التحكم قادرة على الاستهداف والتنفيذ. إذ نُفّذت العديد من هذه الهجمات باستخدام نظام (SMASH Dragon)، وهو وحدة تسليح طوّرتها شركة (Smart Shooter) الإسرائيلية المتخصصة في تقنيات الاستهداف الآلي.
وقد جرى تثبيت النظام على طائرات مسيّرة من طراز(Matrice 600) و(Thor)، وهي طائرات خفيفة الوزن ومتعددة الاستخدامات، تُعدّ مناسبة للعمليات الميدانية السريعة. تُتيح هذه الطائرات إمكانية المناورة في الأزقة الضيقة، والتحليق على ارتفاعات منخفضة، وتحديد الأهداف بدقة، ثم تنفيذ الهجوم بإطلاق النار مباشرة، دون وقوع أخطاء.
وثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عشرات الحالات التي استُهدف فيها مدنيون، من رجال ونساء وأطفال، برصاص من مدافع رشاشة آلية مُثبتة أسفل طائرات مسيّرة صغيرة. وتُظهر هذه الحالات غياب نمط واضح في الاستهداف، وغياب قواعد اشتباك محددة.
في قطاع غزة، تتعرض أحياء كاملة للقصف بشكل يومي، كما تُدمّر مستشفيات ومدارس ومساجد بفعل الغارات الجوية. في الوقت ذاته، تخترق طائرات مسيّرة منازل المدنيين، وتُصوّرها من الداخل، قبل أن تُرسل رسائل صوتية مسجلة تتضمن أوامر بالإخلاء. وبعد دقائق، تُطلق الصواريخ. لا يُمنح السكان حق الكلام أو الاعتراض، ما يتبقى لهم هو تلقّي الأوامر، وتنفيذها دون نقاش.
حتى الطائرات التجارية من طراز (DJI)، المصممة في الأصل لأغراض تصويرية، استُخدمت في العمليات العسكرية بعد إدخال تعديلات بسيطة عليها. إذ جُهّزت بكاميرات حرارية، وحُمّلت بذخائر صغيرة، لتتحوّل إلى أدوات هجومية فورية. يتم تعديل هذه الطائرات بسهولة، لا تتجاوز عملية التهيئة فيها خطوات بسيطة أشبه بتثبيت تطبيق على هاتف ذكي. نقرة واحدة على الشاشة قد تعني نهاية حياة عائلة بأكملها.
ساهم هذا الاستخدام للتكنولوجيا في تحويل قطاع غزة إلى ساحة اختبار لحرب تعتمد على أدوات غير تقليدية. بات بإمكان الطائرات المسيّرة استهداف أي فرد يقع ضمن نطاق رؤيتها، ما جعل القطاع أشبه بميدان رماية مفتوح، تستخدم فيه الطائرات كأداة لنهج يرى في مقتل المدنيين "أضرارًا جانبية مقبولة"، ويقيس النجاح بعدد القتلى، لا بحجم الأرواح التي جرى إنقاذها.
كما أن الوجود المستمر لهذه الطائرات وأزيزها المتواصل على مدار الساعة يفرضان شكلًا من الضغط النفسي الجماعي. الصوت الدائم لا يُستقبل كمؤشر مراقبة فحسب، بل يُفسر أيضًا كدلالة على المطاردة المستمرة، بما يخلّف آثارًا نفسية تتجاوز الأذى الجسدي المباشر.
من القصف العشوائي إلى طائرات القنص المسيّرة
في صيف عام 2024، عاين جرّاح بريطاني عمل في مستشفى ناصر وسط قطاع غزة بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول، تحولًا مقلقًا في نمط الإصابات الناجمة عن الطائرات المسيّرة. واصفًا الجروح التي شاهدها بـ"النظيفة، وشبه الجراحية"، أشار إلى أنها ناتجة عن طائرات قنّاصة بدون طيار.
وفي شهادته أمام لجنة التنمية الدولية في البرلمان البريطاني، أكد أنه عالج عددًا من الإصابات التي تسببت بها هذه الطائرات، والتي قال إن إسرائيل تستخدمها بانتظام.
من جانبه، أفاد الجرّاح البريطاني الفلسطيني غسان أبو ستة، الذي عمل في مستشفى الأهلي شمالي القطاع، بتحليق طائرات مُسيّرة بالقرب من المستشفى، وإطلاقها "رصاصًا منفردًا". وفي رسالة صوتية أرسلها إلى صحيفة تليغراف، أوضح أنه استقبل مصابين أفادوا بتعرّضهم لإطلاق نار من طائرات بدون طيار أثناء سيرهم في الشارع.

وفي التاسع من أكتوبر الفائت، سجّلت فاطمة دعمة، البالغة من العمر 37 عامًا، رسالة صوتية لإذاعة (NPR) من داخل مخيم جباليا. بصوت ثابت، تحدّثت عن حظر التجوّل الذي فرضته الدبابات الإسرائيلية، قبل أن تقاطعها أصوات أربع طلقات حادة في الخلفية. وقالت "هل تسمع ذلك؟ هذه هي الطائرة الرباعية، إنها هنا معظم الوقت. إذا خرجت إلى الباب لتحسين الإشارة، تبدأ بإطلاق النار عليّ، فأضطر للعودة إلى الداخل. الأمر في غاية الخطورة".

وفي واقعة مشابهة، فقد أديب شقفة ابنه ساهر، البالغ من العمر 32 عامًا، بعد تعرّضه لهجوم من طائرة مسيّرة. وفي إفادته لإذاعة (NPR)، قال شقفة إنهما كانا يسيران معًا في مدينة رفح، جنوبي القطاع، في ظهيرة هادئة لم تشهد اشتباكات، حين ظهرت طائرة درون وأطلقت النار على ساهر، الذي كان يتقدّمه ببضع خطوات. وأضاف "ركض رجلان لمساعدته، لكن الطائرة أطلقت النار عليهما أيضًا. واستمرت في إطلاق النار على كل من حاول مساعدته".
وفي وقت لاحق، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه "لا علم له بالحادثة"، مضيفًا أن "مثل هذا السلوك لا يتماشى بأي حال من الأحوال مع تعليمات وبروتوكولات الجيش الإسرائيلي"، معتبرًا أن "أي تلميح إلى وجود نية لإيذاء مدنيين لا أساس له من الصحة".

في مواجهة هذه الشهادات، تتبنى إسرائيل موقف اللامبالاة. ففي مقابلة أجرتها الصحفية أيلسا تشانغ، امتنع سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، داني دانون، عن الإجابة على أسئلة محددة تتعلق باستخدام طائرات القنص المُسيّرة، مؤكدًا أن إسرائيل تستخدم أسلحة متطورة "لتقليل الخسائر بين المدنيين"، وأن توفّر هذه التكنولوجيا المتقدمة يساعد في استهداف "الإرهابيين، وهو الهدف الرئيسي لعملياتها". في المقابل، لم يقدّم الجيش الإسرائيلي أي توضيحات بشأن إمكانية التحقق من استخدام هذه التقنية القطاع.

رغم ذلك، فإن تكنولوجيا الطائرات المسيّرة القنّاصة، والتي تختلف عن الطائرات المسيّرة التقليدية المزودة عادةً بمتفجرات، موجودة بالفعل وتُستخدم بشكل فعلي. وتشير مقاطع فيديو نشرتها شركات مصنّعة لهذه الطائرات، بالإضافة إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية، إلى أن الجيش الإسرائيلي يمتلك هذه التقنية ويستخدمها منذ فترة.
في عام 2014، أسّس عدد من المجنّدين السابقين في وحدات القوات الخاصة الإسرائيلية شركة "ديوك روبوتيكس" (Duke Robotics)، ومقرها الولايات المتحدة. وبعد سنوات، أعلنت الشركة عن تطوير طائرة مسيّرة صغيرة تُدعى (TIKAD)، مزوّدة بكاميرا وأسلحة خفيفة، وقادرة على إطلاق النار أثناء الطيران بفضل نظام خاص يعوّض ارتداد الطلقات. وقد وُصفت هذه الطائرة في مقطع ترويجي نُشر عام 2018 بأنها "جندي المستقبل"، القادر على تنفيذ المهام في المناطق التي يُعد إرسال الجنود إليها محفوفًا بالمخاطر.
ويُظهر الفيديو أفرادًا مدرّبين يستخدمون الطائرة في ميدان للرماية، حيث تحوم وتُطلق النار وتصيب أهدافها بدقة. كما يُذكر في المقطع أن الشركة "تنفذ طلبات لصالح القوات المسلحة الإسرائيلية".
وآنذاك، نشرت وزارة الدفاع الإسرائيلية مقطعًا توضيحيًا للصحافة المحلية، عرضت فيه جانبًا من أحدث تقنياتها. وأظهر الفيديو جنودًا يستخدمون إحدى طائرات القنص المسيّرة التابعة لشركة "ديوك روبوتيكس"، أثناء استهدافهم أهدافًا في ميدان رماية مفتوح.
طائرات مسيّرة انتحارية تقتل دون تمييز
في الساعات الأولى من صباح 17 إبريل/نيسان الجاري، استقبل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح جثامين أربعة أطفال محترقة وممزقة، إثر هجوم استهدفهم أثناء لعبهم بين خيام النازحين في وسط قطاع غزة. وبحسب إفادات شهود عيان، كانت طائرة مُسيّرة إسرائيلية تحلق فوق المكان، قبل أن تطلق النار عليهم بعد ترقب قصير.

تشير الإفادات إلى أن هذه ليست طائرات مسيّرة تقليدية، بل طائرة تُعرف باسم "الذخائر المتسكعة" أو "الطائرات الانتحارية"، وهي طائرات تُفجّر نفسها فور رصد حركة بشرية، وقد صُممت خصيصًا لهذا النوع من المهام.
في اليوم ذاته، نشرت قناة الجزيرة بيانًا للجيش الإسرائيلي أشار فيه إلى أن سلاح الجو نفّذ أكثر من 110 ضربات في مختلف أنحاء القطاع خلال اليومين الفائتين. ولا شك أن مقتل هؤلاء الأطفال الأربعة والعديد من المدنيين الآخرين كان جزءًا من هذه العمليات.

ويتناقض تصريح الجيش اللاحق، الذي أشار إلى "إحراز تقدم كبير في تقليص الخسائر بين المدنيين"، بشكل صارخ مع العمليات التي تشمل تفجير طائرات مسيّرة انتحارية قرب المناطق المأهولة.

أصبح التحكم البشري في العمليات العسكرية في غزة مجرد إجراء شكلي، إذ تُدار عمليات القتل بواسطة خوارزميات تهدف إلى تقليل زمن رد الفعل وزيادة كفاءة الضربة.
وكانت شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) قد اختبرت في عام 2018، طائرة مسيّرة من طراز "روتيم إل" في جنوب الضفة الغربية المحتلة. الطائرة مزودة برأس حربي يزن 6.5 كيلوغرامات، وتتمتع بقدرة تحليق تصل إلى 45 دقيقة. يمكنها تحديد الهدف وملاحقته ومن ثم الهجوم عليه، ويُطلقها جندي واحد بعد تلقي تدريب قصير، ما يجعلها مثالية للاستخدام في المناطق السكنية الضيقة والمكتظة مثل غزة.

يعود تزايد اعتماد إسرائيل على هذه الطائرات إلى كلفتها المنخفضة مقارنة بالطائرات النفاثة والصواريخ التي تتطلب مكونات مستوردة. إذ تُصنع طائرات مثل "روتيم إل" محليًّا، ما يُخفض كلفة إنتاجها ويتيح استخدامها على نطاق واسع. ويمكن لبعض هذه الطائرات أن تُحمل في حقيبة ظهر، ما يُمكّن وحدات المشاة من تنفيذ غارات جوية مستقلة دون دعم مباشر من سلاح الجو.
كما يتم تطوير أنظمة جديدة للتعرف على الوجوه باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو ما أشار تقرير صحيفة ذا نيويورك تايمز إلى أن إسرائيل قد تكون من الدول الرائدة في تطبيق هذه التقنية على نطاق واسع، خاصة في مراقبة الفلسطينيين. إذا ثبت ذلك، فإن استخدام هذه التقنية في قصف تجمعات المدنيين النازحين سيكون له تداعيات خطيرة. ومع تكرار هذه الهجمات، يبدو أن الضرر الذي تسببه الطائرات المسيرة ليس عرضيًا بل متعمدًا، إذ يُستهدف المدنيون بشكل مباشر.

وفي نزاعات أخرى، تُوظّف الطائرات المُسيّرة لتقليل الخسائر المدنية، من خلال استخدام كاميرات دقيقة لتحديد الأهداف العسكرية بدقة وتجنّب القصف العشوائي. إلا أن المعطيات الميدانية من قطاع غزة تُظهر أن غالبية الضحايا هم من النساء والأطفال، ما يشير إلى أن الهجمات تُنفذ في أماكن عامة يسهل فيها التمييز بين المدنيين والمقاتلين، كخيام النازحين، وطوابير توزيع المساعدات، وساحات المدارس.
تُعد هذه المواقع من الوضوح بحيث يمكن حتى لخوارزمية بدائية أن تدرك خلوها من أهداف عسكرية. وعندما تحلّق طائرة مُسيّرة فوق مخيم لعدة دقائق، وترصد الحركات بدقة، ثم تُقرر تنفيذ ضربة وسط تجمع للمدنيين، فإن ذلك لا يمكن اعتباره خطأً غير مقصود، بل قرارًا متعمّدًا في إطار استراتيجية عسكرية تعتمد على القتل عن بُعد.
ماذا يقول القانون الدولي؟
ينص القانون الإنساني الدولي بوضوح على واجب التمييز بين الأهداف العسكرية والسكان المدنيين. ومع ذلك، تُخالف الطائرات الانتحارية المسيرة هذا المبدأ الأساسي بطبيعتها التشغيلية. فهي أنظمة أسلحة تعتمد على أجهزة استشعار لاتخاذ قرارات قاتلة، رغم أن التقنيات الحالية لا تستطيع تقييم حالة الفرد بدقة تتوافق مع متطلبات قوانين الحرب.

ووفقًا لاتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يُعدّ الاستخدام العشوائي للطائرات الانتحارية المسيّرة جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. منذ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبح استخدام هذه الأسلحة في قطاع غزة يُصنّف ضمن تعريف الإبادة الجماعية، كما يتضح من الهجمات المتكررة على المدنيين. وتُظهر الحالات التي تلجأ فيها العائلات إلى ملاجئ مؤقتة العجز التقني في التمييز بين المقاتلين والمدنيين. كما تشير العواقب الموثقة إلى عدد كبير من الضحايا المدنيين، وجيل كامل من الأطفال يعيش تحت تهديد الهجمات المستمرة.
اقرأ/ي أيضًا
كيف وظّف جيش الاحتلال الإسرائيلي بيانات الفلسطينيين لتطوير نموذج ذكاء اصطناعي لمراقبتهم؟
تجدد الاتهامات لمايكروسوفت بتزويد الجيش الإسرائيلي بتقنيات ذكاء اصطناعي أثناء الحرب على غزة