الهجمات على مستشفيات الساحل السوري: معلومات مضللة وتأجيج طائفي
في السادس من مارس/آذار 2025، تعرضت ستة مستشفيات في الساحل السوري لهجمات عنيفة، ما أدى إلى سقوط ضحايا من الطواقم الطبية والمرضى، وتدمير أجزاء كبيرة من البنية التحتية الصحية. تسببت هذه الهجمات في موجة واسعة من ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي. وتراوح تفاعل المستخدمين بين الإدانة والتشكيك، وترويج المعلومات المضللة، إلى جانب تصاعد الخطاب الطائفي والدعوات إلى الانتقام.
في تقرير حديث صادر عن منظمة Insecurity Insight، رصد هذا التفاعل الرقمي، كاشفًا عن ديناميكيات مقلقة تتجاوز مجرد الانفعال اللحظي، لتغوص في عمق التوظيف السياسي، والاستقطاب الطائفي، والتشكيك في العمل الإنساني.
الهجمات على المستشفيات في الساحل السوري
أورد التقرير تحليلًا لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي بين 6 و10 مارس الفائت، ورصد 46 منشورًا و176 تعليقًا على منصتي فيسبوك وإكس، تباينت فيها مشاعر المستخدمين بين الغضب واللوم مع استخدام لغة تحريضية، إزاء من اعتبر المعلقون أنهم مسؤولون عن الهجمات.

كمثال على المحتوى الذي حظي بتفاعل، مجموعة صور نشرتها الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) عن "الجريمة التي ارتكبتها فلول النظام البائد بحق مستشفى جبلة الوطني"، وفقًا لما ذكرت الوكالة. وجاءت أولى ردود الفعل على الحادثة مفعمة بالغضب والصدمة، إذ عبّر كثيرون عن إدانتهم الصريحة للهجمات.

لكن في المقابل، ظهرت تعليقات تشكك في صحة الروايات الرسمية المتداولة، وتساءلت عن الجهة الفاعلة، بل اتهمت أطرافًا متعددة بفبركة الهجمات لتحقيق مكاسب سياسية أو إعلامية.
وفي السياق، رصد مسبار جدلًا أثاره منشور على الصفحة الرسمية لوزارة الصحة السورية، جاء فيه "جانب من الجريمة التي ارتكبتها فلول النظام البائد بحق مستشفى جبلة الوطني، حيث تعرضت المنشأة الطبية للهجوم والحصار، ما أسفر عن معاناة شديدة للمرضى والكوادر الطبية الموجودة داخلها".

هذا الانقسام الرقمي لم يكن مجرد تباين في الرأي، بل انعكاس لتصدعات أعمق في النسيج الاجتماعي السوري، حيث تغيب الثقة، ويغدو كل حدث ساحة لإعادة إنتاج السرديات المتعارضة.
المعلومات المضللة كسلاح: تضليل بلا مصادر واستخدام سياسي فج
قال تقرير Insecurity Insight إن غياب الرواية الرسمية أو ضعفها ترك المجال مفتوحًا أمام نظريات المؤامرة والتفسيرات البديلة. ففي الساعات الأولى بعد الهجمات، انتشرت منشورات تزعم تورط قوى أجنبية أو تصفية حسابات داخلية، دون الاستناد إلى مصادر موثوقة. وسرعان ما تحول الحدث إلى مادة خام للتجييش السياسي من قبل جهات مختلفة، استخدمته كذخيرة في معارك سردية قائمة منذ سنوات.
أيضًا رصد التقرير تشكيكًا طاول منصة إكس ومؤسسها إيلون ماسك، إذ كتب أحد المعلقين "هذا من صنع إيلون ماسك، وإيلون ماسك اشتُريَ من قبل الصهاينة، لن أثق به أبدًا، في النهاية هو قابل للبرمجة".

في خضم التفاعل الرقمي وُجّهت أصابع الاتهام على نحو واسع إلى إيران وحزب الله، اللذين يُنظر إليهما بوصفهما العدو الرئيسي للسلطة السورية الجديدة.
وقد رصد مسبار منشورات عدة على منصات التواصل الاجتماعي، حملت هذا الاتهام بشكل صريح، معتمدة على سرديات سياسية راسخة عن دور طهران وحزب الله في أحداث الساحل. وتجلى الاتهام في نماذج متعددة، من بينها منشور رصده مسبار وجهت فيه أصابع الاتهام لـ"مرتزقة إيران"، بقتل 11 طبيبًا أثناء الهجمات على مستشفيات اللاذقية وطرطوس وريفيهما.
ولم تتضح حقيقة الاتهامات المباشرة لإيران وحزب الله حليفي الأسد السابقين، إذ لم تصدر بعد نتائج التحقيقات الرسمية بشأن أحداث الساحل السوري لم تكتمل بعد. ففي التاسع من مارس الفائت، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع قرارًا بتشكيل لجنة تحقيق خاصة تتألف من سبعة أعضاء، بهدف التحقق من ملابسات الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون، بما في ذلك استهداف المنشآت الطبية. ومُدّدت فترة عمل اللجنة لثلاثة شهور إضافية في مطلع إبريل/نيسان الجاري.
يُبرز هذا الواقع فجوة ملحوظة بين سرعة الأحكام المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي، والتي غالبًا ما بُنيت على خلفيات سياسية أو انطباعات آنية، وبين مسار التحقيقات الرسمية الذي يتطلب وقتًا لتحري الدقة وجمع الأدلة، ما يزيد من تعقيد المشهد الإعلامي ويعزز مساحة الشائعات والمعلومات المضللة.
تصاعد الخطاب الطائفي بعد الهجمات على مستشفيات الساحل
في سياق متصل، أظهر تقرير منظمة Insecurity Insight، كيف اتخذ الخطاب الطائفي منحى أكثر حدة بعد الهجمات، إذ جرى تأطير الاعتداءات على المستشفيات عبر عدسة الانقسامات الدينية والعرقية. العديد من التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي نسبت الهجمات إلى الطائفة العلوية بشكل مباشر، مستخدمة لغة تحريضية وعنيفة، مثل ما جاء في إحدى المنشورات "العلويون يحرقون ويقتلون الأطفال ويدخنون السجائر، إنهم أعداء الإنسانية. في هجوم الأمس قتل العلويون أطفالًا كانوا يتلقون العلاج في مستشفى بمدينة جبلة"، في إشارة واضحة إلى تحميل جماعي لطائفة كاملة مسؤولية الانتهاكات.

كما رُصدت دعوات صريحة للعنف والانتقام، منها منشور يقول "لا ترحموهم، اقصفوهم"، ما يكشف عن مدى تأجيج المشاعر الطائفية وتطبيع خطاب العنف على المنصات الرقمية.
ولم يقتصر الأمر على الخطاب الطائفي فحسب، بل ظهرت أيضًا تعبيرات عن الرغبة في الانتقام السياسي والعسكري، كما في تعليق آخر "لا محالة، سيأتي اليوم الذي يأكل فيه الشعب السوري لحم ميليشيات الجولاني وهم أحياء"، ما يعكس خطورة تصعيد اللغة التحريضية على إمكانية احتواء النزاع، ويشير إلى كيف يمكن للغضب الرقمي أن يتحول إلى محفّز ميداني لأعمال عنف إضافية، ما يهدد الجهود الإنسانية والإغاثية القائمة في المنطقة.
غياب القانون الدولي الإنساني عن الخطاب على مواقع التواصل
رغم الانتشار الواسع للنقاشات حول العنف ضد المنشآت الصحية على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن الإشارات إلى القانون الإنساني الدولي والمبادئ الإنسانية وأخلاقيات العمل الطبي كانت شبه غائبة عن الخطاب العام. وما يزال من غير الواضح ما إذا كان هذا الغياب نتيجة صعوبة في فهم هذه المبادئ، أو انعكاسًا لحالة الإحباط من ضعف تطبيقها.
ومع تحوّل وسائل التواصل إلى ساحة مؤثرة في تشكيل الرأي والسياسات، تبرز الحاجة إلى تبسيط المفاهيم الإنسانية وطرحها بطريقة قريبة من الناس، لتعزيز قدرتهم على الدفاع عن الحقوق الإنسانية في العصر الرقمي.
في المقابل، لفت التقرير إلى أن النظر لتحليل المشاعر على المنصات الرقمية خلال الأزمات، يقدم فرصة مهمة لرفد الاستجابة الإنسانية بمعلومات ميدانية، خاصة مع صعوبة الوصول المباشر إلى مناطق النزاع. غير أن هذه الفرصة تأتي مصحوبة بتحديات كبيرة، إذ يتطلب الاعتماد على البيانات الرقمية تمييزًا دقيقًا بين الوقائع الحقيقية والتصورات والمعلومات المضللة التي تنتشر سريعًا وسط بيئات الأزمات.
ومع تصاعد هذه الانحرافات المعلوماتية، لا تقتصر مظاهر الغضب الشعبي على استهداف الأطراف المتسببة في العنف المباشر، بل تمتد أيضًا إلى التشكيك بشرعية وفاعلية الجهات الإنسانية نفسها، ما يزيد من تعقيد المشهد الميداني ويهدد بتقويض الثقة بالعمل الإنساني.
تشكيك بعمل الجمعيات والمنظمات الإنسانية
رغم أن تقرير Insecurity Insight ركّز أساسًا على تحليل مشاعر الغضب والانقسام الطائفي والمعلومات المضللة عقب الهجمات على المرافق الصحية، إلا أن الرصد الميداني الذي أجراه "مسبار" أظهر أن حالة الاستياء الشعبي تجاوزت حدود الحديث عن العنف المباشر، لتمس عمل الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية.
فقد رصد مسبار منشورات عدة تثير شكوكًا بشأن عدالة توزيع المساعدات، مع اتهامات بمحاباة الأقارب والمعارف على حساب الفئات الأكثر احتياجًا. وبرزت دعوات إلى مقاطعة بعض القرى التي اعتُبرت مستفيدة بشكل غير عادل من الدعم الإنساني، مقابل الإهمال الذي تعانيه مناطق المخيمات.
في السياق ذاته، عبّر عدد من المستخدمين عن استنكارهم تقديم الدعم لسكان الساحل، معتبرين أن نازحي المخيمات في الشمال السوري أولى بالمساعدة.

وقد رصد مسبار جدلًا أثاره منشور يتضمن عناوين وروابط لعدد من الجمعيات الخيرية والفرق التطوعية الناشطة في الساحل السوري، إذ أشار بعض المعلقين إلى أن المساعدات لا تصل إلى المحتاجين الحقيقيين.
التحديات التقنية أمام تحليل المشاعر وقت الأزمات
في ظل تصاعد الأزمات الإنسانية، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مصدرًا مهمًا لتحليل مشاعر الناس ورصد ردود الفعل في الوقت الفعلي. ومع ذلك، ما تزال هناك تحديات تقنية كبيرة تواجه المنظمات الإنسانية في استخدام هذه المنصات بشكل فعّال. فالتقنيات الحالية لا تتيح فحصًا دقيقًا للبيانات، ما يعيق القدرة على التمييز بين الروايات الواقعية والمعلومات المضللة.
علاوة على ذلك، فإن وجود أدوات بحث غير متطورة وتأثير الخوارزميات على تصفية المحتوى، يجعل من الصعب الوصول إلى صور حقيقية وشاملة للواقع في مناطق النزاع. إضافة إلى ذلك، تزايد استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) يعقد التأكد من مكان وجود المستخدمين وصدق المعلومات التي ينشرونها.
هذه التحديات التقنية تؤكد الحاجة الملحة إلى تطوير أدوات أكثر دقة وشفافية لتحليل البيانات من وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا يرتبط مباشرة مع المشاكل التي ظهرت سابقًا في تقرير مسبار، الذي أظهر كيف يمكن للمعلومات المضللة أن تؤثر على الروايات حول الأزمات، ما يعزز الانقسامات ويعقد الاستجابة الإنسانية الفعّالة.
كشف التقرير كيف ساعدت المعلومات المغلوطة في تصعيد التوترات الطائفية وتعمق الانقسامات الاجتماعية، ما أثر على جهود الإغاثة والمساعدات الإنسانية. هذه الظاهرة أظهرت الحاجة الملحة إلى تحسين أدوات رصد وتحليل البيانات، وهو ما يواكب التحديات التقنية التي تعيق الاستخدام الفعّال لوسائل التواصل في الاستجابة للأزمات الإنسانية.
اقرأ/ي أيضًا