حملة تضليل ممنهجة: حسابات تشكّك في استهداف مطعم التايلندي والسوق الشعبي في غزة
في السابع من مايو/أيار الجاري، شنّ الجيش الإسرائيلي غارتين جويتين متزامنتين بطائرة مسيرّة استهدفت مطعم التايلندي، إضافة إلى سوق شعبي مكتظ بالمواطنين قرب المطعم وسط مدينة غزة. وأودت الغارتان بحياة ما لا يقل عن 30 ضحية، وأوقعت أكثر من 86 إصابة، وفقًا لبيان صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية.
عقب الغارتين الجويتين اللتين استهدفتا المطعم والسوق الشعبي، وفي أعقاب انتشار صور الضحايا ومقاطع الفيديو التي وثّقت اللحظات الأولى للاستهداف، شهدت منصة إكس حملة من الادعاءات التي طعنت في صدقية المشاهد المصوّرة، زاعمة أن الاستهداف "مفبرك".
روّجت هذه المزاعم حسابات معروفة بدعمها لرواية الاحتلال الإسرائيلي، وسبق أن نشرت ادعاءات مشابهة في سياقات أخرى، مدّعية أن الضحايا "ممثلون"، وأن المكان المستهدف لم يتضرر، فيما اتهمت وسائل إعلام عربية ودولية بفبركة المشهد لصالح حركة حماس.

غير أن تلك الرواية، التي استندت إلى مقاطع مجتزأة وتحليلات انتقائية، تجاهلت عمدًا الأدلة الميدانية المتاحة، والشهادات الموثّقة للشهود، فضلًا عن التوثيق المُصوّر للأضرار المباشرة التي خلّفها الهجوم في الموقعين.
في هذا المقال، يتتبع "مسبار" المزاعم المتداولة بشأن استهداف مطعم التايلندي والسوق الشعبي في غزة، ويفنّدها استنادًا إلى تحليل دقيق للمواد البصرية، وربطها بالشهادات الميدانية الموثّقة، مع معاينة الأضرار في موقع الهجوم والتحقق من هويات الضحايا، في سياق يوضّح كيف وُظّف التشكيك كأداة للتضليل، في إطار حملات دعائية اعتادت الطعن في صدقية مشاهد موت الفلسطينيين خلال الحرب الإسرائيلية الجارية على القطاع.
دماء كثيرة بلا إصابات ظاهرة
عقب الغارتين الجويتين، انتشرت مزاعم مشكّكة ركزت على المشاهد الأولى المصوّرة، زاعمة أن "كمية الدماء الظاهرة لا تتناسب مع طبيعة الإصابات المزعومة". من بين أبرز تلك المزاعم الادعاء بغياب الإصابات الظاهرة على أجساد الضحايا، رغم "كثافة الدماء" الظاهرة في المكان، وأشارت الحسابات إلى أن ذلك يشير إلى "فبركة" الاستهداف.
وذهب بعضهم إلى اعتبار الأوضاع التي استلقت فيها الجثث "مريحة" بشكل غير منطقي بالنسبة لضحايا سقطوا إثر غارة جوية، معتبرين ذلك دليلًا إضافيًا على "التشكيك في صحة الاستهداف".


إلى جانب ذلك، زعمت حسابات أن الدماء الظاهرة في المشاهد المصوّرة لا تبدو طبيعية من حيث اللون والقوام، ووصفت مظهرها بأنه "غير واقعي".

ضمن هذا السياق، أشار حساب باسم "Aizenberg" الذي يُعرّف عن نفسه كعضو في مجلس إدارة منظمة HonestReporting، ومعدّ تقارير بحثية لمنظمة NGO Monitor، ومرتبط بمؤسسة Henry Jackson Society، بالإضافة إلى كونه مساهمًا في مجلة Fathom Journal، إلى أن مقاطع الفيديو التي وثّقت اللحظات الأولى بعد استهداف المطعم أظهرت عددًا كبيرًا من الرجال "القتلى" داخل المكان، دون ظهور إصابات واضحة أو تمزيق في الملابس.

أجرى مسبار تحليلًا دقيقًا لعدد من مقاطع الفيديو التي وثّقت اللحظات الأولى للقصف، إلى جانب مراجعة شاملة لمجموعة من الصور الميدانية. ورصد دلائل واضحة تُثبت وجود ثقوب وتمزق في ملابس الضحايا، ناجمة عن تطاير الشظايا، فضلًا عن إصابات جسدية مباشرة وواضحة.
وتُظهر الصور بوضوح آثار جروح عميقة وتهتكات واسعة في الأطراف، إضافة إلى ثقوب منتشرة بوضوح في الأجساد والملابس، تحديدًا في مناطق الإصابة، وهو ما يتماشى تمامًا مع النمط المألوف لأضرار الشظايا الناتجة عن القصف. كما وثّقت المشاهد إصابات خطيرة لدى بعض الضحايا في منطقتي الرأس والأطراف، ما يؤكد طبيعة الإصابات البالغة التي خلّفها القصف.


كما وثّقت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في القطاع، عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، مقاطع مُصوّرة تُظهر عمليات نقل عشرات المصابين من محيط مطعم التايلندي والمنطقة المجاورة له، عقب الاستهداف.
وأوضحت طواقم الجمعية أن الإصابات تنوّعت بين المتوسطة والحرجة، مشيرة إلى أن المصابين نقلوا على وجه السرعة إلى مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر، حيث خضع عدد منهم لعمليات جراحية عاجلة، في حين أُدخلت حالات أخرى إلى أقسام العناية المركزة نظرًا لخطورة إصاباتهم.
وأشارت الجمعية إلى أنه جرى نقل الضحايا ومصابين آخرين إلى المستشفى الميداني للهلال الأحمر في منطقة السرايا.
إلى جانب ذلك، أجرى مسبار مراجعة دقيقة لقوائم الضحايا التي نشرتها وسائل إعلام محلية، بالإضافة إلى ما تم تداوله من قِبل نشطاء وصحفيين عبر منصات التواصل الاجتماعي. وقد شملت المراجعة مطابقة بيانات 20 اسمًا وردت في قوائم ضحايا الاستهدافين، من بينهم خمسة أطفال، مع بيانات النعي المنشورة من قِبل أقارب الضحايا وأصدقائهم على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بتاريخ السابع من مايو الجاري، يوم وقوع القصف.
كما تمكّن مسبار من الوصول إلى صور توثّق الضحايا وهم في الأكفان، إلى جانب مقاطع فيديو تُظهر مراسم تشييع بعضهم، ما يدحض بشكل قاطع المزاعم التي أنكرت حدوث الاستهداف أو حاولت التشكيك في سقوط ضحايا جرّاء الغارتين.
ومن بين الضحايا، الطفل نوح السقا، حيث وثّق والده، عبر حسابه الشخصي على فيسبوك، مقطع فيديو يظهر فيه وهو يحتفل بعيد ميلاد نجله قبل يوم واحد فقط من ارتقائه. ويظهر نوح ووالده في الفيديو وهما يرتديان الملابس نفسها التي ظهرا بها في صورة التقطها المصوّر عمر القطاع لصالح وكالة فرانس برس، والتي وثّقت لحظة وداع الأب لنجله داخل مشرحة مستشفى الشفاء، وفقًا للوصف المرفق مع الصورة.

كما أسفر استهداف المطعم عن ارتقاء الصحفي يحيى صبيح، الذي ظهرت صوره ومقاطع فيديو له وهو مُلقى على الأرض والدماء تغطي وجهه، مع آثار واضحة للإصابات. ومن خلال البحث والتحقق، عُثر على صور توثّق وجود صبيح داخل مستشفى الشفاء، تُظهر بوضوح آثار ثقوب في ملابسه ناجمة عن الشظايا. كما أظهرت مقاطع فيديو أخرى، التُقطت من زوايا متعددة، لحظات وداع عائلته له وتشييعه، وهو ما يدحض الادعاءات التي زعمت أن الاستهداف كان مجرد "تمثيلية" مفبركة.
وفي سياق متصل، نعته نقابة الصحفيين الفلسطينيين، مشيرة إلى ارتقائه جرّاء قصف مباشر نفّذته الطائرات الإسرائيلية على مطعم التايلندي، بعد ساعات من تلقيه نبأ ولادة طفلته الأولى.
كما أضاف "Aizenberg"عدة لقطات شاشة مأخوذة من مقطع فيديو نشره مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة، أنس الشريف، عبر حسابه على إكس. وزعم أن "المقطع الذي نشره صحفي الجزيرة، التابعة لحماس، يكشف المزيد من التزييف"، مدعيًا أن أحد الأشخاص الظاهرين في الفيديو "يتحرك بوضوح رغم أنه من المفترض أنه قتيل"، وأضاف أن ملابسه "تبدو سليمة تمامًا" واصفًا المشهد بـ"تمثيل سيئ للغاية". مضيفًا أن "حماس تعلم أن وسائل الإعلام الدولية لن تتحقق من أمرهم أو تكشفهم".

وفي منشور آخر، نشر الحساب صورة قال إنها للشخص ذاته، وهو ممدد بجوار جثمان الصحفي يحيى صبيح، مدعيًا أنها تُظهر تناقضًا يفضح "تمثيلية القتلى" وفق زعمه. وعلّق قائلًا "في هذه الصورة، يمسك الرجل هاتفًا بيده اليمنى ورأسه مرفوع، وعند تكبير الصورة يظهر بوضوح أنه جالس بشكل طبيعي. لقد أفسد الصورة على الجميع، حيث بدا في مقاطع أخرى وكأنه يجلس بشكل مريح رغم الادعاء بإصابته في الغارة".

غير أن مراجعة مقطع الفيديو الأصلي، إلى جانب مقاطع أخرى وثّقت اللحظات الأولى من الاستهداف، أظهرت زيف هذه الادعاءات. إذ يتضح أن الشخص المشار إليه لم يكن يتظاهر بالموت كما زُعم، بل حاول النهوض فور وقوع الاستهداف، لكنه سرعان ما استلقى مجددًا متأثرًا بإصابته. كما رُصد وهو يتحدث مع أحد الأشخاص الذين هرعوا لمساعدة الصحفي صبيح، وتبادل معه بضع كلمات.
لا وجود لأضرار حقيقية في استهداف المطعم
روّجت تلك الحسابات لرواية موحّدة مفادها أن الغارة الجوية التي استهدفت مطعم التايلندي لم تخلّف أية أضرار مادية حقيقية. وادّعت الحسابات أن المشاهد المُصوّرة من موقع الاستهداف لا تتطابق مع ما يفترض أن يكون عليه أثر قصف جوي. وذهب بعضها للقول إن المكان لم يُصب أصلًا، زاعمة أن الطاولات وأجهزة الحاسوب والبضائع بقيت في أماكنها دون أن يمسها ضرر، وأن سقف الخيمة لا يزال سليمًا، في حين أن السيارات المحيطة لم تتحطم نوافذها، رغم قربها من موقع الانفجار.





غير أن تلك المزاعم تعمّدت تجاهل الأضرار التي وثّقتها المقاطع المصوّرة نفسها التي أُرفقت ضمن الادعاءات، حيث يظهر بوضوح حجم التأثير الذي خلّفه الاستهداف. تبدو الكراسي والطاولات متضررة بشكل ظاهر، وبعضها تعرّض للكسر نتيجة القصف، في حين سادت الفوضى أرجاء المكان بسبب تطاير الحطام والشظايا.
كما توضح المشاهد وجود أضرار ملحوظة في الهيكل المعدني للخيمة، من تمزّقات واضحة، فضلًا عن ظهور مركبة قريبة تحمل آثار الشظايا بوضوح، ما يدحض الادعاءات التي نفت وقوع أي أضرار. إلى جانب ذلك، يمكن رؤية الأطباق والأدوات متناثرة على الأرض، وأجزاء من الستائر قد سقطت، إضافة إلى تمزّق قطع النايلون التي كانت تغطي الواجهة الأمامية للمطعم.

وتعمّدت بعض المنشورات التركيز على مشاهد تظهر فيها بعض شاشات التلفاز وبعض أغطية الطاولات بحالة جيدة، في محاولة لتصوير المكان وكأنه لم يتعرض لأي استهداف. كما أُثيرت مزاعم حول طبيعة الضحايا، إذ أشار البعض إلى أن الإصابات اقتصرت على رجال وأطفال، متسائلين عن غياب النساء في قسم المطعم "المخصص للعائلات"، وهو ما اعتبروه دليلاً إضافيًا على ما وصفوه بـ"المسرحية".

لكن بالبحث، عثر مسبار على نعي نشره الصحفي، محمود العمودي، عبر حسابه في فيسبوك، لابن عمه أحمد عمر العمودي، الذي قضى في استهداف مطعم التايلندي. كما أشار في منشوره إلى أن "زوجته الآن مصابة في جريمة مطعم التايلندي".
وفي إفادته لراديو "علم"، أوضح أحد شهود العيان أن المطعم كان يضم لحظة الاستهداف عددًا من النساء والأطفال وكبار السن، كانوا يتناولون طعامهم داخل المطعم.
ومن جانبه، قال الصحفي هاني أبو رزق، في مقطع مصوَّر التُقط له أثناء وجوده داخل المطعم بعد استهدافه، إن المكان الذي يجلس فيه كان يضم عائلة كانت تتناول طعامها لحظة القصف.
تُظهر الحقائق الميدانية والتوثيقات المصوّرة أن محاولات التشكيك في استهداف مطعم التايلندي والسوق الشعبي في غزة، لم تكن سوى إعادة إنتاج لخطاب اعتاد التشكيك في جرائم الجيش الإسرائيلي خلال حربه الجارية على القطاع. فبينما انشغل مروّجو التضليل في انتقاء زوايا مجتزأة وترويج سرديات مفبركة، كشفت الأدلة المتوفرة حجم الأضرار وواقع الضحايا.
اقرأ/ي أيضًا
رغم الأدلة.. حسابات تشكك في صورة طفلة فلسطينية تعاني من المجاعة في غزة
حسابات إسرائيلية تشارك معلومات مضللة مدّعية دعم وكالة الأونروا لحماس
المصادر























