علوم

التحايل على الذات: عندما يُستخدم الذكاء لتعزيز الاقتناع الزائف لا لاختباره

فاطمة عمرانيفاطمة عمراني
date
21 مايو 2025
آخر تعديل
date
11:57 ص
23 مايو 2025
التحايل على الذات: عندما يُستخدم الذكاء لتعزيز الاقتناع الزائف لا لاختباره
الذكاء قد لا يحمي من التضليل حسب دراسة جديدة من جامعة ميشيغان

هل يكفي أن نكون أذكياء لنتجنب الوقوع في فخ الأخبار الزائفة؟ يبدو أن الإجابة ليست بهذه البساطة. فمع تزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيس للمعلومات، بدأ الباحثون يطرحون سؤالًا مختلفًا: هل الذكاء وحده كافٍ لحمايتنا من التضليل، أم أنه قد يخدعنا أحيانًا بمنحنا ثقة زائفة في قدرتنا على التمييز؟

دراسة جديدة من جامعة ولاية ميشيغان قدمت نتائج مفاجئة: الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء معرفي عالٍ كانوا أكثر قابلية لتصديق المعلومات المضللة، إذا كانوا مدمنين على استخدام المنصات الرقمية.

دراسة جديدة من جامعة ولاية ميشيغان عن التضليل
أول دراسة من نوعها لجامعة ولاية ميشيغان تربط الاستخدام الإشكالي لوسائل التواصل الاجتماعي بتصديق الأخبار المزيفة

ومع دراسات سابقة رصدها "مسبار" من معهد ماساتشوستس للتقانة ومجلة نيتشر، تتضح صورة أكثر تعقيدًا: الذكاء ومحو الأمية الرقمية ليسا ضمانًا للنجاة من التضليل، بل قد يتحوّلان، في بعض الأحيان، إلى أدوات تخدم الانحياز الشخصي وتُضعف القدرة على التحقق النقدي.

في هذا المقال، يستعرض مسبار أبرز ما توصلت إليه الدراسات في هذا الصدد، ويفكك العلاقة المعقدة بين الذكاء، السلوك الرقمي، وقابلية تصديق الأخبار الزائفة، بما في ذلك في السياق العربي.

كيف قاست الدراسة هذه العلاقة المعقّدة؟

قاس باحثون نوعين من الذكاء: الذكاء المعرفي (cognitive ability)، ويشمل مهارات التحليل وحل المشكلات، والذكاء العاطفي (emotional intelligence)، المرتبط بضبط المشاعر والوعي بالسياق. ثم ربطوا هذه النتائج بدرجات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا ما يُعرف بـ"الاستخدام الإشكالي"، أو الـProblematic Social Media Use، الذي يشير إلى علاقة غير صحية أو قهرية مع هذه المنصات. المفاجأة كانت أن الذكاء المعرفي المرتفع، عند اقترانه بهذا النمط من الاستخدام، زاد من قابلية تصديق المعلومات الكاذبة.

لم يكن الذكاء هنا حصنًا ضد التضليل، بل حليفًا غير واعٍ له. لأن الأشخاص الأذكى يستخدمون أدواتهم المعرفية ليس بالضرورة لفحص المعلومة، بل أحيانًا لتعزيز سرديات يرغبون في تصديقها. إذ يتحول الذكاء إلى مبرّر داخلي لتأكيد ما نرغب في أن يكون صحيحًا، لا ما هو صحيح بالفعل.

من الذكاء إلى الهوية: عندما يُستخدم الإدراك لتعزيز الاقتناع لا لاختباره

في هذا السياق، قد تبدو نتائج دراسة أخرى من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أكثر زعزعة للمفاهيم السائدة. إذ وجدت أن الذكاء الرقمي أو المهارات الرقمية العالية، مثل القدرة على التحقق من المصادر، أو التعرف على الحسابات المزيفة، لا تُقلل بالضرورة من قابلية الأفراد لنشر الأخبار الزائفة.

تساعد الثقافة الرقمية الأشخاص على تحديد المعلومات المضللة لكنها لا تمنعهم من نشرها
تساعد الثقافة الرقمية الأشخاص على تحديد المعلومات المضللة لكنها لا تمنعهم من نشرها

السبب في هذا الانفصال بين القدرة والسلوك لا يعود إلى الجهل، بل إلى ما تسميه الدراسة "التحفيز الدافع" (motivated reasoning). وهو نمط تفكير يستخدم فيه الفرد قدراته الإدراكية ليس للتحقّق من صحة المعلومة، بل لتبرير موقفه المسبق منها. بكلمات أخرى، حين تصادف المستخدم معلومة غير دقيقة لكنّها تنسجم مع هويته السياسية أو الدينية أو العاطفية، فإن ما يفعّله ليس جهاز الشك، بل جهاز التأييد الداخلي، مهما كان متمكنًا رقميًا.

تشير الدراسة إلى أن هذا النمط شائع بشكل خاص في القضايا المثيرة للانقسام، مثل الانتخابات أو الأحداث العنيفة أو قضايا الهوية، إذ تصبح مشاركة المعلومة (سواء كانت صحيحة أم لا)، فعلًا رمزيًا يتجاوز الحقيقة نحو الانتماء.

لماذا لا تُترجم القدرة إلى وعي سلوكي؟ السياق العربي نموذجًا

في دراسة نشرتها مجلة نيتشر، وشارك فيها مستخدمون من 16 دولة، سجّل المشاركون من دول عربية، مثل مصر والسعودية، نسبًا أعلى في القدرة على تمييز الأخبار الزائفة مقارنة بمستخدمين من الولايات المتحدة وأوروبا. لكن هذه المفارقة تفتح الباب لسؤال مقلق: إذا كان الوعي موجودًا، فلماذا تظل بيئتنا الرقمية عرضة للتضليل على هذا النطاق؟

المستخدمون العرب حققوا نتائج أعلى في اختبار التمييز بين الأخبار الحقيقية والزائفة
المستخدمون العرب حققوا نتائج أعلى في اختبار التمييز بين الأخبار الحقيقية والزائفة

جزء من الإجابة يكمن في طبيعة استخدام المنصات الرقمية عربيًا. فبحسب مقال سابق لـمسبار، يعتمد 64 في المئة من المستخدمين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار، بينما يتفاعل 79 في المئة منهم معها يوميًا. هذا الاستخدام الكثيف يخلق بيئة خصبة لانتشار المعلومات المضللة، حتى بين من يملكون مهارات معرفية أو تحليلية جيدة.

يعتمد 64٪ من المستخدمين العرب على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار

وهنا تعود الإشكالية الأساسية إلى الواجهة: قابلية التأثر لا تتعلق دائمًا بقدرة الشخص على التمييز، بل بالسياق الذي يتفاعل فيه مع المعلومة. في العالم العربي، غالبًا ما تلعب الضغوط الاجتماعية، والاستقطاب السياسي، وغياب الثقة بالمؤسسات دورًا في تمرير المحتوى المضلل، حتى لدى من يعرف أنه غير دقيق.

من الذكاء إلى الحكمة الرقمية: ما الذي ينقصنا؟

كل ما سبق يعيد صياغة المعادلة: الذكاء لا يحصّن من التضليل. فما ينقص ليس المهارة، بل الوعي بكيفية استخدام المهارة. وفيما تقول الدراسات إن الذكاء قد يُعطي صاحبه الثقة، لكنه في الوقت ذاته قد يكون عبئًا داخل بيئة رقمية مصمّمة لتعزيز الانفعال وتصفية المعلومات وفق خوارزميات شخصية. والمفارقة أن الأذكياء، حين يقعون ضحايا للتضليل، قد يكونون الأقل استعدادًا للاعتراف بأنهم خُدعوا، لأنهم واثقون بأنهم لا يُخدعون.

لذلك، فإن ما نحتاجه ليس مجرد محو أمية رقمية، بل تعليم للشك، وتدريب على الانتباه، وتربية على التفكير غير المؤكد. فالهشاشة في زمن ما بعد الحقيقة لا ترتبط بانخفاض الذكاء، بل بانفصال الذكاء عن النزاهة المعرفية، وعن الشك الصحي، وعن الاعتراف بأننا، مهما كنا أذكياء، لسنا أذكى من أن ننخدع.

اقرأ/ي أيضًا

دور الانحياز المعرفي في انتشار المعلومات المضللة المؤثرة على قضيّة التغير المناخي

الدوافع النفسية والاجتماعية وراء تصديق الادعاءات المرتبطة بنظريات المؤامرة

المصادر

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar