سياسة

ردود الفعل الإسرائيلية على عملية واشنطن: بين تبني سردية الضحية وإنكار المجازر في غزة

فاطمة حمادفاطمة حماد
date
23 مايو 2025
آخر تعديل
date
7:37 ص
15 يونيو 2025
ردود الفعل الإسرائيلية على عملية واشنطن: بين تبني سردية الضحية وإنكار المجازر في غزة
رصد وتحليل للخطاب الإسرائيلي بعد عملية واشنطن | مسبار

شهدت العاصمة الأميركية واشنطن، مساء أول أمس الأربعاء، عملية إطلاق نار أمام متحف التراث اليهودي أسفرت عن مقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية، وألقت الشرطة القبض على منفذ الهجوم، المواطن الأميركي إلياس رودريغيز، الذي هتف "فلسطين حرة" أثناء تقييده.

سارعت إسرائيل إلى تصنيف الحادث باعتباره "عملًا إرهابيًا معاديًا للسامية"، ورفعت حالة التأهب في بعثاتها الدبلوماسية حول العالم. وتوالت التصريحات الرسمية الإسرائيلية التي حمّلت ما وصفته بـ"التحريض العالمي ضد إسرائيل واليهود" مسؤولية الحادث، في خطاب أعاد إلى الواجهة استخدام معاداة السامية كأداة سياسية، وربط ما جرى بتنامي التضامن الدولي مع الفلسطينيين، واتهام هذا التضامن بالتحريض على العنف.

يستعرض مسبار في المقال التالي، أبرز الادعاءات التي وردت في التصريحات الرسمية الإسرائيلية عقب الهجوم، ويفند مضامينها استنادًا إلى تقارير ومصادر موثوقة، كما يحلل توظيف خطاب معاداة السامية في السردية الرسمية، ويعرض كيفية تناول الإعلام الإسرائيلي للحدث وإعادة إنتاجه الرواية الرسمية.

السردية الإسرائيلية تربط الهجوم بالتحريض الدولي وتُنكر المجازر في غزة

في أعقاب عملية إطلاق النار، تبنى مسؤولون إسرائيليون رواية موحدة تُحمّل ما وصفوه بـ"التحريض العالمي ضد إسرائيل واليهود" مسؤولية ما جرى.
وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، صرح بوجود "صلة مباشرة" بين التحريض المعادي للسامية والهجوم، معتبرًا أن الخطاب الدولي المعارض لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو تاريخ بدء الحرب على قطاع غزة، جعل الدبلوماسيين الإسرائيليين حول العالم عرضة للاستهداف. ودعا إلى وقف ما وصفه بـ"الاتهامات الباطلة ضد إسرائيل"، موجهًا أصابع الاتهام إلى قادة ومسؤولين أوروبيين اتهمهم بتأجيج التحريض. كما حذر من استمرار ما سماه موجة "معاداة السامية"، التي ستجعل الإسرائيليين، بحسب تعبيره، مهددين بهجمات "إرهابية" متكررة.

مؤتمر وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بعد عملية واشنطن
تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بعد عملية واشنطن

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كرر الموقف ذاته، مؤكدًا عزمه "محاربة معاداة السامية والتحريض العنيف"، ومعلنًا تشديد الإجراءات الأمنية في السفارات الإسرائيلية. واعتبر أن الانتقادات الدولية الموجهة لإسرائيل تُشكّل "افتراءات دموية تُسفك الدماء ويجب القضاء عليها"، مشيرًا إلى أنها تقف خلف هجوم واشنطن.

لكن الخطاب الرسمي أغفل تمامًا سياق الحرب المستمرة على قطاع غزة، والتي تسببت في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. إذ وصف ساعر الاتهامات الدولية الموجهة لإسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وقتل الأطفال بأنها "افتراءات تمهد الطريق لارتكاب جرائم بحق الإسرائيليين"، ما يُعد إنكارًا صريحًا للوقائع الميدانية التي وثقتها منظمات حقوقية دولية ومحلية.

وهو ما يعكس سردية إنكار تتبناها الحكومة الإسرائيلية، تهدف إلى نزع الشرعية عن الانتقادات الدولية، وتحويل الطرف الفلسطيني إلى متهم، رغم التقارير الميدانية التي تؤكد حجم المجازر المرتكبة. ووفق وزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد الضحايا الفلسطينيين 53 ألفًا، غالبيتهم من النساء والأطفال.

ادعاءات نتنياهو المضللة وإنكاره لكل ما يجري في غزة بخطابه بعد عملية واشنطن
إنكار نتنياهو لكل ما يجري في غزة خلال خطابه بعد عملية واشنطن

الخطاب الرسمي الإسرائيلي يشيطن التضامن مع فلسطين 

في السياق ذاته، أدلى عدد من المسؤولين الإسرائيليين بتصريحات تُصور الهجوم كامتداد للكراهية التاريخية ضد اليهود. ووصف الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ الهجوم بأنه "عمل دنيء ينم عن كراهية ومعاداة للسامية". أما سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، داني دانون، فحذر من أن "إيذاء الدبلوماسيين والجالية اليهودية تجاوز للخط الأحمر"، وطالب بتحرك دولي حازم ضد منفذي "العمل الإجرامي".

وفي المجمل، عكست التصريحات الرسمية رواية تربط الهجوم بـ"التحريض الخارجي"، متجاهلة السياق السياسي الأوسع وتداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

عدة وزراء في حكومة نتنياهو تبنوا خطابًا يحمّل موجات التضامن العالمي مع غزة مسؤولية ما جرى، معتبرينها أحد محركات "التحريض والإرهاب". وزير الشتات ومكافحة معاداة السامية، عميحاي شيكلي، اتهم في منشور على منصة إكس قادة غربيين، من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ورئيس الوزراء الكندي، بأنهم مسؤولون عن الهجوم بسبب "فشلهم في رسم خطوط حمراء أخلاقية" أمام ما وصفه بحملة كراهية عالمية.

تصريحات وزير الشتات ومكافحة معاداة السامية عميحاي شيكلي
عميحاي شيكلي يربط شعار "فلسطين حرة" بالقتل في خطاب تحريضي

وادعى أن كل من يعارض الحرب الإسرائيلية على غزة "يتحمّل جزءًا من المسؤولية". وفي منشوره، كتب "فلسطين حرة" ليست صرخة من أجل الحرية، بل صرخة من أجل القتل. وقد ثبت ذلك اليوم بالدم. لقد أصبح هذا الشعار، الذي يردده ناشطون وأكاديميون ومؤثرون، راية لا للسلام، بل للكراهية والعنف وشيطنة الدولة اليهودية. وأي شخص يستخدمه الآن، بعد هذا الهجوم، لا يردد معاداة السامية فقط، بل يضفي شرعية على قتل اليهود والإسرائيليين".

يربط شيكلي بين التضامن مع فلسطين والتحريض على العنف، مقدمًا سردية تتجاهل تمامًا سياق الحرب الإسرائيلية المستمرة في غزة، والانتهاكات الواقعة على الفلسطينيين في القطاع وسائر الأراضي المحتلة.

من جهته، وصف وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الهجوم بأنه "جريمة معادية للسامية تهدف إلى نفي وجود دولة إسرائيل"، معتبرًا أنه امتداد "لموجة كراهية تستهدف إسرائيل على المستوى الوجودي".

تصريحات بتسلئيل سموتريتش واعتباره العملية امتداد لمعاداة السامية وخطاب الكراهية والتحريض ضد إسرائيل
تصريحات بتسلئيل سموتريتش بعد عملية واشنطن

اتهامات سياسية بين أطراف إسرائيلية

لم تقتصر الرواية الرسمية الإسرائيلية بعد هجوم واشنطن على تحميل الخارج المسؤولية، بل وُظفت أيضًا في توجيه اتهامات داخلية بين أطراف من اليمين واليسار في إسرائيل. وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير، ووزير الثقافة ميكي زوهر، وجّها انتقادات مباشرة للسياسي المعارض يائير غولان، رئيس حزب "الديمقراطيين"، على خلفية مواقفه من الحرب على غزة. قال بن غفير إن "معادي السامية في العالم يستمدون الدعم من سياسيين فاسدين في إسرائيل يتهمون جنودنا بقتل الأطفال هوايةً". أما زوهر، فاعتبر أن "الاتهامات الكاذبة بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب"، والتي يروّج لها سياسيون إسرائيليون، كانت من العوامل التي أدت إلى الهجوم في واشنطن.

كما اتهم وزير التراث، عميحاي إلياهو، غولان بشكل مباشر، وقال إن دم قتلى السفارة "على يدي يائير غولان وأصدقائه".

اتهامات سياسية بين أطراف إسرائيلية بعد عملية واشنطن

وجاءت التصريحات الإسرائيلية في أعقاب موقف سابق لغولان حذر فيه من أن "إسرائيل في طريقها لتصبح دولة منبوذة مثل جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد"، وأكد أن "الدولة العاقلة لا تحارب المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تهجّر السكان". وبعد الهجوم، عبر غولان عن موقفه بالقول إن "الحكومة الحالية تغذي معاداة السامية وكراهية إسرائيل"، محذرًا من أن "النتيجة هي خطر يهدد كل يهودي في العالم".

السردية الرسمية التي برزت بعد الهجوم، تبنت سردية أن ما حدث هو نتيجة حملة تحريض تقودها جهات فلسطينية وأنصارها لتشويه صورة إسرائيل، وأن هذه الحملة غذت موجة كراهية بلغت ذروتها في الهجوم. وضمن هذا الإطار، اعتُبر التضامن العالمي مع غزة محفزًا للعنف، فيما رُفضت الاتهامات الموجهة لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب أو إبادة، ووُصفت بأنها أكاذيب تدخل ضمن حملة كراهية أوسع. في المقابل، واصلت الرواية الرسمية تأكيد أن إسرائيل هي الطرف الذي يتعرض للتهديد والاعتداء.

الخطاب الرسمي الإسرائيلي يشيطن الانتقادات الدولية بوصفها دعاية فلسطينية مضللة

أبرز وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، في خطابه عقب عملية إطلاق النار في واشنطن، ما وصفه بـ"الدعاية الفلسطينية" التي قال إنها تضلل المجتمع الدولي وتحرّض على العداء لإسرائيل. واعتبر أن الانتقادات الموجهة لإسرائيل ليست سوى حملة دعائية مغرضة يديرها الفلسطينيون ومناصروهم لتشويه صورة الإسرائيليين عالميًا. واختزل الإدانات الدولية المتزايدة لمشاهد الدمار في غزة بوصفها نتيجة "تحريض ممنهج وأكاذيب"، موجهًا الاتهام إلى قادة ومسؤولين في عدة دول، خصوصًا في أوروبا، بالمشاركة في هذا التحريض. من جهته، صرح وزير الشتات عمخاي شيكلي بأن "من ينشر الأكاذيب ويشبه إسرائيل بالنازيين ويتهم الجيش بجرائم حرب... هو شريك كامل في النتيجة"، في إشارة إلى أن أي انتقاد أخلاقي يُصوّر كتحريض يؤدي إلى العنف. وبهذا يُقدم الخطاب الرسمي الإسرائيلي كأن إسرائيل ضحية لحملة تضليل عالمية تُستخدم فيها المآسي الإنسانية كأداة لاستهداف شرعيتها.

إلا أن الخطاب الإسرائيلي المتكرر حول "الدعاية الفلسطينية" يتجاهل كمًا هائلًا من الأدلة الميدانية والحقوقية التي وثقتها منظمات دولية محايدة وموثوقة على مدار الحرب المستمرة في غزة. فقد أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا مفصلًا أكدت فيه أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية متعمدة، مشيرة إلى أن "الحد القانوني لجريمة الإبادة الجماعية قد تم استيفاؤه"، استنادًا إلى الوقائع وتصريحات مسؤولين إسرائيليين. كما وثقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن ما يقارب 70 في المئة من الضحايا المدنيين الذين تحققت من هوياتهم هم من النساء والأطفال، وهو ما يتناقض جذريًا مع المزاعم الإسرائيلية المتكررة بشأن استهداف "المسلحين" فقط.

أما محكمة العدل الدولية، فقد أصدرت في أواخر العام الفائت تدابير مؤقتة ملزمة طالبت فيها إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية في غزة وضمان توفير المساعدات الإنسانية، وذلك في إطار الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا. هذه الخطوة عكست وجود أساس قانوني معتبر يُظهر أن الفلسطينيين في غزة يواجهون خطر الإبادة، وليس مجرد تبعات جانبية لحرب تقليدية كما تزعم إسرائيل.

وقد عبرت منظمات حقوقية إسرائيلية بدورها أيضًا عن موقف واضح ومعلن من الحرب الأخيرة. فقد نشرت منظمة "بتسيلم" تقريرًا في 18 مارس/آذار الفائت، كشفت فيه أن الغارات الإسرائيلية العشوائية قتلت خلال فترة قصيرة أكثر من 1000 فلسطيني، بينهم 300 طفل، فضلًا عن تعمد السلطات الإسرائيلية تجويع السكان ومنع دخول الإغاثة. كما أشارت إلى خطة رسمية لإعادة احتلال غزة وإنشاء ما سمّي بـ"مديرية ترانسفير" تهدف إلى تهجير السكان قسرًا.

وبعيدًا عن سرديات النفي والإنكار، تظهر مشاهد الدمار الهائل، التي وثقتها وسائل إعلام عربية ودولية، والتقارير المستقلة، أن الاتهامات الموجهة لإسرائيل تستند إلى معطيات ثابتة وشهادات موثقة، لا إلى حملات "تحريضية" كما تزعم الرواية الرسمية. ومجرد وصف هذه الوقائع بأنها "دعاية" يندرج في إطار محاولة منهجية للتعتيم على الانتهاكات، والتشويش على الجدل الحقوقي المتصاعد.

من جهة أخرى، دأبت إسرائيل منذ سنوات على تخصيص موارد ضخمة لتحسين صورتها خارجيًا، ضمن ما يُعرف بمشاريع "الهسبراه"، وهي حملات علاقات عامة تهدف إلى تبرير السياسات الإسرائيلية دوليًا. ويعمل إلى جانب هذه الحملات مؤيدون لإسرائيل في وسائل الإعلام والمؤسسات الغربية، يسعون لإعادة تشكيل السردية العامة وتخفيف الضغط الحقوقي، من خلال إنكار ممنهج يتخذ طابعًا رسميًا.

بذلك، يظهر الخطاب الإسرائيلي الذي يحمّل الفلسطينيين مسؤولية موجة الانتقادات الدولية باعتباره "تحريضًا دعائيًا"، كأداة تهدف لتقويض السرديات الحقوقية، والتغطية على وقائع ثابتة، تدعمها تقارير قانونية وإنسانية واسعة، وتعبّر عن أزمة متصاعدة تتجاوز سرديات الحرب إلى توصيف قانوني لجريمة إبادة جماعية.

كيف توظف إسرائيل خطاب الإرهاب لتجريم المظاهرات التضامنية مع غزة؟

امتد الخطاب الرسمي الإسرائيلي، عقب عملية إطلاق النار في واشنطن، ليشمل تجريم حراك التضامن الدولي مع الفلسطينيين، وخصوصًا المظاهرات السلمية التي اجتاحت عواصم ومدنًا كبرى حول العالم، وجرى تصويرها كمحرض رئيسي على العنف. وجه مسؤولون إسرائيليون أصابع الاتهام نحو الاحتجاجات المؤيدة لغزة، زاعمين أنها ساهمت في خلق أجواء الكراهية التي مهدت للهجوم. وزير شؤون الشتات، عمخاي شيكلي، قال صراحة إن شعار "الحرية لفلسطين" ليس نداءً للحرية، بل "نداء للقتل وتشويه صورة الدولة اليهودية"، على حد تعبيره.

ولم تنفرد الحكومة بهذا التأطير، فقد تبنت المعارضة الطرح ذاته. زعيمها يائير لبيد وصف عملية قتل موظفي السفارة بأنها "نتيجة مباشرة للتحريض الذي شهدناه في المظاهرات حول العالم"، وأعاد التذكير بشعار "عولمة الانتفاضة" قائلًا "هذا ما كانوا يقصدونه دائمًا"، في إشارة إلى أن الدعوات لانتفاضة من أجل فلسطين تُترجم فعليًا إلى أعمال إرهابية. وبهذا الطرح، يتبلور إجماع سياسي إسرائيلي من اليمين واليسار على ربط الاحتجاجات العالمية المناهضة للحرب بصعود معاداة السامية وتهديد حياة الإسرائيليين.

تصريحات يائير لبيد بشأن عملية واشنطن
تصريحات يائير لبيد بشأن عملية واشنطن

الإعلام الإسرائيلي بدوره استغل هتاف منفذ العملية "الحرية لفلسطين" لتصوير الهجوم كنتيجة مباشرة لما وصفه بالتحريض في مسيرات التضامن مع غزة، مشيرًا إلى أن رودريغيز انخرط سابقًا لفترة وجيزة في نشاط حركة يسارية مؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة. واستخدم الإعلام لصياغة سردية تربط العملية بعنف الحراك المؤيد لغزة، وتقدمه كامتداد لحملة كراهية ضد إسرائيل.

الرواية الرسمية والإعلامية هاجمت حركات التضامن مع الفلسطينيين حول العالم ووصمتها بالتطرف، إلا أن الواقع الميداني يناقض السردية الإسرائيلية المضللة. فمعظم المظاهرات التي شهدتها مدن أوروبية وأميركية وآسيوية كانت سلمية بالكامل، ولم تُسجل فيها حوادث تُذكر. الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع عبّروا عن غضبهم من مشاهد القصف والدمار وقتل المدنيين في غزة، ورفعوا شعارات تطالب بوقف الحرب ورفع الحصار، وهي مطالب إنسانية تستند إلى قيم حقوقية وأخلاقية، لا إلى عداء ديني كما يروج له.

حتى شعار "Free Palestine" (الحرية لفلسطين)، الذي اعتُبر أحد أدلة الإدانة ضد منفذ العملية، هو هتاف يُستخدم منذ عقود في سياق مناهضة الاحتلال ودعم تقرير المصير، ولا يشكل في جوهره دعوة إلى العنف أو الكراهية. تصوير هذا الشعار كأداة تحريض يعكس خطابًا تعبويًا مضادًا يهدف إلى نزع الشرعية عن أي تعبير جماهيري يدين العدوان على غزة.

كما أن التضامن مع غزة لا يقتصر على العرب أو المسلمين، بل يشمل أيضًا شخصيات ومنظمات يهودية فاعلة في أنحاء مختلفة من العالم. كثير من المشاركين في هذه الاحتجاجات ينطلقون من موقف معارض لسياسات إسرائيل العسكرية، لا من منطلقات دينية أو عنصرية. بالتالي، فإن محاولات ربط هذا الحراك بالإرهاب تندرج ضمن استراتيجية دعائية تهدف إلى إسكات الأصوات المنتقدة، وتحويل المتظاهرين إلى متهمين بالتحريض.

وفي السياق، سبق لمسبار أن فند ادعاءات مضللة ربطت المظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة بالعنف ومعاداة السامية. بدأت موجة الاحتجاجات في 17 إبريل/نيسان 2024 من جامعة كولومبيا، بعد أن استدعت رئيسة الجامعة، نعمت شفيق، شرطة نيويورك لفض اعتصام طلابي سلمي. سرعان ما امتدت الاحتجاجات إلى جامعات كبرى مثل نيويورك، وييل، جورج واشنطن، إيموري، مينيسوتا، ومعهد MIT، ثم إلى جامعات أوروبية بينها "سيانس بو" في باريس وأكسفورد في بريطانيا.

واجهت الاحتجاجات ضد الحرب، هجومًا إعلاميًا وسياسيًا منظمًا، تضمن اتهامات للطلاب بممارسة العنف ونشر خطاب معادٍ للسامية. وفي مقال مسبار، أثبت أن تلك الادعاءات كانت مضللة، موثقًا مشاركة واسعة من طلاب وأساتذة ومنظمات يهودية مثل "صوت يهودي من أجل السلام"، "يهود من أجل إيقاف إطلاق النار"، "يهود هارفارد من أجل السلام"، و"شافوره جامعة بنسلفانيا".

كما شاركت منظمة "أتيدنا"، بقيادة الطالب اليهودي إليجاه كالينبيرج من جامعة تكساس، وهو متخصص في الدراسات اليهودية والشرق أوسطية، وقد وصف ما يجري في غزة بالإبادة الجماعية. أعلن كالينبيرج مشاركته في الاعتصامات انطلاقًا من موقف إنساني وأخلاقي، فيما شارك عدد من الحاخامات اليهود أيضًا في الاحتجاجات، تأكيدًا على أن الحراك المناهض للحرب لا يعكس خطاب كراهية، بل يعبر عن احتجاج أخلاقي واسع ضد السياسات العسكرية الإسرائيلية.

تفنيد مسبار لادعاءات مضللة رافقت الاحتجاجات الجامعية ضد الحرب على غزة

كيف تستخدم إسرائيل معاداة السامية لتبرير جرائمها؟

تصدرت تهمة معاداة السامية الخطاب الرسمي الإسرائيلي عقب العملية في واشنطن، وبرزت كأداة مركزية لمواجهة الانتقادات الدولية المتزايدة خلال الحرب على غزة. استخدم المسؤولون الإسرائيليون المصطلح ليس بوصفه توصيفًا لحادث بعينه، بل ضمن استراتيجية خطابية تهدف إلى إسكات الأصوات المطالِبة بوقف الحرب، وكسب تعاطف سياسي وإعلامي، لا سيما في الغرب، لتبرير الانتهاكات المستمرة بحق الفلسطينيين.

وشددت الرواية الرسمية على أن الدافع الأساسي وراء الهجوم هو الكراهية الموجهة ضد اليهود على خلفية الانتماء الديني، مع تجاهل تام لأي سياق سياسي أو حقوقي. حصر العملية ضمن إطار معاداة السامية يخدم سردية أوسع تستدعي المظلومية التاريخية لليهود، من الهولوكوست إلى مظاهر الكراهية الحديثة، وتعيد تقديم إسرائيل كضحية دائمة تواجه تهديدًا وجوديًا.

ويمثل ذلك توجهًا يعيد تقديم إسرائيل كدولة مهددة بالإبادة، ويُستحضر مع كل تصعيد أو مساءلة دولية. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش صرّح عقب العملية بأن ما جرى نابع من "كراهية تهدف إلى نفي وجود إسرائيل"، في امتداد مباشر للسردية الإسرائيلية.

وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد اتهم في مايو/أيار 2024، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الذي تحرك لفتح تحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في غزة، بأنه "من أكبر المعادين للسامية في العصر الحديث". ويواصل الخطاب الرسمي التأكيد على أن الحرب الأخيرة هي "صراعًا على البقاء".

اتهامات نتنياهو بحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية
اتهامات نتنياهو بحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بسبب التحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في غزة

في المقابل، يواجه الفلسطينيون، منذ نكبة عام 1948، خطرًا دائمًا بالتهجير القسري، بدءًا من احتلال فلسطين، ومرورًا بتهجير عام 1967، ووصولًا إلى مخططات التهجير الجماعي في غزة والضفة الغربية. وخلال العدوان الحالي، أطلق سياسيون إسرائيليون دعوات علنية لتفريغ غزة من سكانها ونقلهم إلى سيناء، ما يكرّر مشاريع ترحيل أُعيد طرحها كلما سنحت الفرصة. في الوقت ذاته الذي تُستغل فيه تهمة معاداة السامية لتبرير الجرائم.

الإعلام الإسرائيلي وإعادة إنتاج الرواية الرسمية

لعبت وسائل الإعلام الإسرائيلية دورًا بارزًا في ترسيخ سردية الحكومة الإسرائيلية حول عملية إطلاق النار في واشنطن. فمنذ الساعات الأولى، وصفت التغطية الحدث بأنه "هجوم إرهابي معاد للسامية"، وهو توصيف تبنته معظم الصحف والمواقع الإخبارية، مرددة تصريحات المسؤولين الرسميين. صحيفة "معاريف"، على سبيل المثال، وصفت مقتل موظفي السفارة بأنه "جريمة كراهية ضد اليهود"، وطالبت بأخذ تهديد معاداة السامية على المستوى العالمي بجدية. أما موقع "واينت" فنشر تحليلات تربط بين شعارات المظاهرات في العواصم الغربية والتحريض على العنف، مسلطًا الضوء على شعار "عولمة الانتفاضة" بوصفه تهديدًا أمنيًا يمتد إلى قلب واشنطن، ومؤطرًا الهجوم كنتيجة مباشرة لهذا التحريض.

ربط موقع واي نت الإسرائيلي بين رفض الحرب على غزة والعملية في واشنطن
ربط موقع واينت الإسرائيلي بين رفض الحرب على غزة والعملية في واشنطن بشكل مضلل

استخدمت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية توصيفات حادة، مؤكدة أن الهجوم استهدف إسرائيليين بسبب هويتهم اليهودية والإسرائيلية. صحيفة "يديعوت أحرونوت"، عبر موقعها "واينت"، وصفت الهجوم بأنه "عملية إرهابية"، ونقلت عن وسائل إعلام أميركية أن المهاجم ارتدى الكوفية الفلسطينية وهتف "تحيا فلسطين" قبل فتح النار. كما نشرت "إسرائيل اليوم" تصريحًا واضحًا يفيد بأن المهاجم ارتكب الجريمة بدافع الكراهية المعادية للسامية.

تبنّت أغلب وسائل الإعلام الإسرائيلية الرواية الرسمية للحكومة في تفسير الهجوم، وركزت التغطيات على ربط العملية بمناخ عالمي من التحريض على إسرائيل، تزامن مع تصاعد الاحتجاجات الدولية المناهضة للحرب في غزة. وأشار موقع "واينت" إلى أن توقيت العملية جاء في ظل ازدياد الضغوط الدولية على إسرائيل، وإدانات حادة وتهديدات بفرض عقوبات من بعض الحلفاء الغربيين، معتبرًا أن هذا المناخ العالمي أسهم في خلق أجواء معادية شجعت على تنفيذ الهجوم.

اتهامات معاداة السامية والإرهاب بحث المتضامنيين مع غزة والاحتجاجات الجامعية
اتهامات معاداة السامية والإرهاب بحث المتضامنيين مع غزة والاحتجاجات الجامعية

وفي السياق، استخدمت وسائل الإعلام الإسرائيلية شعارات حكومية مثل "عولمة الانتفاضة" للإشارة إلى التهديد الأمني المتصاعد ضد الإسرائيليين في الخارج. في "إسرائيل اليوم"، نُشر مقال تحليلي حمّل موجة التحريض العالمية مسؤولية مباشرة عن العملية، محذرًا من أن الدعوات إلى "عولمة الانتفاضة" وتمجيد حركة حماس بعد عملية طوفان الأقصى جعلت وقوع مثل هذا الهجوم مسألة وقت. واعتبر المقال أن العملية هي الأخطر ضد الجاليات اليهودية منذ هجوم بيتسبرغ عام 2018، معيدًا طرح سردية أن اليهود باتوا مستهدفين عالميًا.

القناة 14 اليمينية شددت بدورها على أن التحذيرات المسبقة كانت كافية للتنبيه لاحتمال حدوث اعتداء مماثل، واعتبرت الهجوم امتدادًا لسلسلة من الاعتداءات على اليهود في الخارج، يغذيها التحريض والدعاية المعادية لإسرائيل. أما القناة 12، فقد تصدر تصريح وزير الخارجية جدعون ساعر تغطيتها، حيث وصف الهجوم بأنه نتيجة مباشرة للتحريض السام ضد إسرائيل واليهود، مضيفًا أن شخصيات دولية ومنظمات، خصوصًا في أوروبا، تشارك في التحريض. كما وصف ساعر الاتهامات الدولية الموجهة لإسرائيل بأنها "أساطير دم حديثة"، في إشارة إلى مزاعم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، معتبرًا أن هذا الخطاب سهّل ارتكاب جرائم قتل كهذه. وقد كررت وسائل الإعلام هذه التصريحات بشكل بارز.

تغطية القناة 12 للعملية وتكررها ذات الادعاءات والسردية الرسمية حول العملية
تغطية القناة 12 وتكرارها لذات الادعاءات والسردية الرسمية حول العملية 

الصحف اليمينية مثل "إسرائيل اليوم" لم تكتف بتكرار سردية التحريض العالمي، بل ذهبت إلى تحليل خلفيات المهاجم الاجتماعية والسياسية بما يدعم موقف الحكومة. فقد أشارت إلى أن رودريغيز، المنفذ، تأثر بدعاية معادية لإسرائيل على الإنترنت، وشارك سابقًا في تظاهرات يسارية مؤيدة للفلسطينيين. واعتبرت أن فئات اجتماعية معينة في الولايات المتحدة، لا سيما من أصول لاتينية، باتت أكثر عرضة لخطاب معاد لإسرائيل، ودعت إلى مواجهته بخطاب إعلامي مضاد.

إسرائيل هيوم تصور منفذ العملية كناشط لاتيني يساري تأثر بالدعاية المعادية لإسرائيل وتربط الهجوم بتصاعد معاداة السامية وخطاب الكراهية
إسرائيل هيوم تصور منفذ العملية كناشط لاتيني يساري تأثر بالدعاية المعادية لإسرائيل وتربط الهجوم بتصاعد معاداة السامية وخطاب الكراهية

جاءت تغطية موقع "واللا" الإخباري والقناة 14 متوافقة مع الخط الرسمي أيضًا، إذ نقلت تصريحات الإدانة الأميركية والدولية للهجوم، لكنها ركزت بشكل أوسع على الموقف الإسرائيلي، وأعادت ترديد عبارة أن الضحايا استُهدفوا لكونهم ممثلين لدولة إسرائيل. كما أشاد ساعر بالضحيتين واصفًا إياهما بـ"مقاتلين في الميدان الدبلوماسي"، في تشبيه ضمني بأن استهداف الدبلوماسيين يمثل امتدادًا لحرب عالمية ضد إسرائيل.

حتى وسائل الإعلام الناطقة بالإنجليزية، مثل "تايمز أوف إسرائيل"، تبنت الاتجاه ذاته، مبرزة تصريحات ساعر حول التحريض المعادي للسامية، ومشيرة إلى مناخ عدائي تغذيه الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل، مع تذكير ببيانات الأمن القومي التي دعت الإسرائيليين في الخارج إلى توخي الحذر.

تقرير ذا تايمز أوف إسرائيل يعكس السردية الرسمية بربط الهجوم بالتحريض وكراهية اليهود
تغطية ذا تايمز أوف إسرائيل تعكس السردية الرسمية بربط الهجوم بالتحريض وكراهية إسرائيل واليهود

ويُظهر رصد مسبار لتغطية الإعلام الإسرائيلي، أنه لعب دورًا محوريًا في ترسيخ سردية رسمية تُعيد تأطير هجوم واشنطن كجزء من سلسلة تهديدات عالمية تستهدف "اليهود" وإسرائيل، متجاهلًا السياقات السياسية والحقوقية الأوسع. وقد بدا المشهد الإعلامي متماهيًا إلى حد كبير مع الخطاب الرسمي، ما أتاح لرواية أحادية أن تهيمن، تُنكر ما يجري في غزة، وتعيد إنتاج سردية معاداة السامية.

اقرأ/ي أيضًا

كيف تستخدم إسرائيل مقولة حرب الحضارات لتبرير جرائمها في غزة؟

بين الادعاءات المضللة وخطاب الكراهية: ردود فعل المجتمع الإسرائيلي على وفاة البابا فرنسيس

المصادر

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar