القصف الأميركي على اليمن.. هل ساهمت المصادر المفتوحة في استهداف المدنيين؟
مساء يوم 27 إبريل/نيسان 2025، سُمع دوي انفجار ضخم في أطراف محافظة صنعاء. كانت غارة جوية نفذها سلاح الجو الأميركي، مستهدفًا موقعًا معزولًا، بدا للوهلة الأولى منشأة عسكرية، وذلك ضمن حملة مستمرة ضد مواقع لجماعة الحوثي. لكن، بعد القصف، تبيّن أن المكان المستهدف لم يكن سوى موقع مدني.
ومع انتشار صور من مواقع القصف، بدأت الشكوك تتزايد حول طبيعة الهدف، حتى كشفت صور أقمار صناعية أن الموقع لا يحمل أي سمات عسكرية. وكان لافتًا أن الضربة جاءت بعد أيام فقط من تغريدة نشرها حساب شهير على منصة إكس باسم Vleckie واسم مستخدم @VleckieHond، وهو حساب متخصص في استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT)، حدد فيها الموقع نفسه على أنه موقع عسكري تابع للحوثيين، استنادًا إلى تحليل بصري لتضاريس المنطقة وبعض الهياكل في الصور.
أثارت هذه الحادثة التساؤلات حول دور المصادر المفتوحة في توجيه العمليات العسكرية، ومدى مسؤولية الأفراد غير المحترفين الذين يشاركون معلومات حساسة قد تُستخدم في استهداف مناطق مدنية.
تضليل المصادر المفتوحة.. من "التحليل" إلى "القصف"
على مدار السنوات الأخيرة، وتحديدًا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، تحوّلت حسابات OSINT على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى ما يشبه غرف الأخبار العسكرية البديلة، تقدم تحليلات آنية مستندة إلى صور أقمار صناعية، وتحليلات للمحتوى البصري، وصور خرائط توضيحية لمناطق الصراع. وكان حساب Vleckie واحدًا من بين تلك الحسابات البارزة، متخصصًا في الشأن اليمني وتتبع التحركات الحوثية في اليمن.
في هذه الحالة، نشر Vleckie تحليلًا مفصلًا لما زعم أنه موقع عسكري محتمل للحوثيين في منطقة ثقبان، التابعة لمديرية بني الحارث على أطراف العاصمة صنعاء، وقال إنه استند "جزئيًا إلى منشور لحساب على إكس باسم Galal alsalahi، يعود إلى الأول من إبريل الفائت، زعم أنه يكشف موقع منطقة إطلاق صواريخ حوثية في أجواء صنعاء.
انتشر تحليل Vleckie، وأعادت نشره حسابات متخصصة في تتبع ورصد الأخبار المتعلقة بالشؤون الحربية باستخدام المصادر المفتوحة. ثُمّ نفّذت القوات الأميركية غارة جوية على نفس الموقع بنفس الإحداثيات، وذلك في 27 إبريل الفائت.
أدى القصف الأميركي إلى مقتل 12 مدنيًا، بينهم ستة أطفال من عائلة واحدة هي عائلة علي يحيى صلاح مسعود، بحسب ما نشر سكان من المنطقة نفسها، وأصدقاء للعائلة.
بالإضافة إلى الضحايا المدنيين، ظهرت تناقضات أخرى، كشفت أن الموقع الذي جرى استهدافه، موقع مدني بالكامل، دون وجود أي مؤشرات عسكرية. ولم تكن الخرائط وصور الأقمار الصناعية في الأساس تحمل دلالة على وجود عسكري في المنطقة.
ما تُظهره صور الأقمار الصناعية، الملتقطة في مارس/آذار الفائت، هو أن الموقع الخالي من أي مؤشرات على وجودٍ عسكري، ليس سوى منطقة سكنية تعد امتدادًا متصلًا بقرية ثقبان بني الحارث، تعمل فيه عربات نقل ومعدات حفر لإزالة أسس وقواعد الأبنية المخالفة، ضمن حملة لإزالة المخالفات بدأتها مديرية بني الحارث منذ يناير/كانون الثاني الفائت.
ويقع المكان المستهدف على مقربة من مستودعات برنامج الأغذية العالمي. ويُمكن رؤية آثار القصف في صور أقمار صناعية ضعيفة الجودة، بعد تحييد الغطاء النباتي من خلال تحديده باستخدام مؤشر False color، وذلك لأن النباتات قد تظهر في صور الأقمار الصناعية ضعيفة الجودة بلون بُني، ما يجعل من الصعب التفريق بينها وبين التغيّرات في التربة. لذا فبعد تحييد الغطاء النباتي من خلال تحديد نطاقه، وبعد تحديد موقع القصف وإجراء العديد من المقارنات بين صور المنطقة، يُمكن رصد تغيّر ملحوظ في الموقع بعد القصف.
منذ مارس الفائت، كثّفت الولايات المتحدة غاراتها الجوية في اليمن ضمن عملية عسكرية أطلقت عليها اسم "Rough Rider". بدأت الغارات في 15 مارس الفائت، مستهدفةً ما قالت إنها مواقع وبنى تحتية عسكرية تستخدمها جماعة الحوثي لمهاجمة السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر وخليج عدن، إثر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبحلول إبريل الفائت، استهدفت الولايات المتحدة أكثر من ألف موقع، بحسب القيادة المركزية الأميركية (USCENTCOM)، ما أدى إلى مقتل المئات، وتقليص الحوثيين هجماتهم نسبيًا، قبل الإعلان في السادس من مايو/أيار الجاري، عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، بوساطة عُمانية.
لكن الغارات الأميركية أسفرت أيضًا عن مقتل مدنيين. ولم يكن قصف قرية ثقبان بني الحارث، الحادث الوحيد الذي استهدف مدنيين بدلًا من استهداف مواقع عسكرية، ففي اليوم التالي قُصف مركز احتجاز لمهاجرين أفارقة في مدينة صعدة، ما أسفر عن مقتل نحو 70 من المهاجرين الأفارقة، وإصابة عشرات آخرين. واعترفت الولايات المتحدة بأنها على علم بما حدث، دون أن تؤكد بشكل مباشر تورطها في قصف المركز الذي يضم 115 مهاجرًا أفريقيًا، غير أن شظايا القذيفة التي عثر عليها في الموقع تُؤكد أن القصف أمريكي، إذ تبيّن أنها من نوع GBU-39.
و لم تكن تلك المرة الأولى التي يُشار فيها إلى اعتماد الجيش الأميركي على وسائل التواصل الاجتماعي في تحديد مواقع أهداف مُحتملة. فسبق أن حدث ذلك خلال العملية العسكرية ضد داعش في العراق وسوريا، حيث كشف الجنرال السابق في القوات الجوية الأميركية، هربرت كارلايل، أن طيارين في فرق الاستخبارات والاستطلاع بالقوات الجوية الأميركية، يتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي للحصول على معلومات استخباراتية محتملة، واستنادًا إلى ذلك نفّذت المقاتلات الأميركية، في 2015، غارة على موقع يُعتقد أنه لداعش.
في الأثناء، كانت غارات أميركية يُفترض أنها تستهدف مقاتلي التنظيم الإرهابي، قد حصدت أرواح مدنيين فيما وصفته القيادة المركزية الأميركية بـ"الخسائر غير المتعمدة".
إذًا، في حين قد يبدو من المطمئن الاعتقاد بأن العمليات العسكرية الأميركية تُنفّذ استنادًا إلى أعلى مستويات الاستخبار العسكري، وبدقة كبيرة، إلا أن الوقائع تُشير إلى خلاف ذلك، وتكشف عن اعتماد الجيش الأميركي، ولو جزئيًا، على وسائل التواصل الاجتماعي وحسابات غير موثوقة بالضرورة، لجمع معلومات استخباراتية، بل تحديد أهداف عسكرية.
ورغم أن حساب @VleckieHond اعتذر عن الخطأ الذي نشره، وأضاف بأنه "متأكد تمامًا من أن القيادة المركزية الأميركية لا تأخذ بيانات الاستهداف من تويتر"، إلا أن الحادثة التي ذكرها الجنرال الأميركي هربرت كارلايل عن استهداف موقع محتمل لداعش استنادًا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، تنفي صحة تأكيد @VleckieHond.
وتشير قرائن أخرى إلى أن الجيش الأميركي، أو على الأقل مستويات من مسؤولين عسكريين في الجيش الأميركي، ربما كانت على معرفة بالنتائج التي ينشرها Vleckie خاصة عن اليمن، إذ سبق أن استشهد تقرير صادر عن مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت (CTC)، في إبريل 2024، بتحليلات حساب Vleckie عن العمليات العسكرية في اليمن، ووصفه بـ"المحلل البارع".
ومركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، هو جزء من الأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت (USMA)، وهي مؤسسة تابعة للجيش الأميركي، مختصة بتعليم وتدريب الضباط الملتحقين بالجيش الأميركي، حيث يتخرج الطلاب فيها بدرجة بكالوريوس في العلوم العسكرية ورتبة ملازم.
التحيز التأكيدي وتحليل الفرضيات المتنافسة
من بين العوامل التي يُحتمل أنها ساهمت في الخطأ الذي وقع فيه حساب @VleckieHond، هو ما يُعرف بـ"التحيز التأكيدي"، وهو الميل إلى تبنّي المعلومات التي تدعم فرضيات سابقة، مع تجاهل أو التقليل من شأن الأدلة المناقضة. في هذه الحالة، استند Vleckie إلى منشور نشره حساب جلال الصلاحي (@galal_alsalahi)، وهو ناشط على منصات التواصل الاجتماعي، من مواليد محافظة إب في اليمن، ويقيم في الولايات المتحدة. يُعرف الصلاحي، من خلال ما ينشره على حساباته، بمواقفه المناهضة لجماعة الحوثيين، دون أن يظهر في محتواه أي مؤشرات على امتلاكه خبرة صحافية موثقة أو تدريبًا منهجيًا في تحقيقات المصادر المفتوحة.
رغم ذلك، تبنى Vleckie معلومات الصلاحي، فيما يبدو أنه التقاء في التحيزات، إذ لم يُظهر تحليل Vleckie مراجعة جادة لفرضيات أخرى بديلة. على سبيل المثال، لم يُجرِ بتحليل مقارن بين الموقع المستهدف في ثقبان بني الحارث ومواقع أخرى موثقة كمناطق عسكرية حوثية، ولم يطرح احتمال أن تكون معدات الحفر الظاهرة في الصور لأغراض مدنية، مثل إزالة مخالفات البناء، كما أشرنا سابقًا.
ولتجنّب ما يُعرف بـ"التفسيرات المرضية"، أي تلك التي تُرضي توقعات المحقق أو الباحث دون أن تخضع لاختبار الأدلة المتاحة، تبرز منهجية تحليل الفرضيات المتنافسة" والتي تتطلب طرح كل الفرضيات الممكنة، وجمع كافة الأدلة ذات الصلة دون إقصاء، وتقييم مصادرها، ثم اختبار كل فرضية بناءً على مدى انسجامها أو تناقضها مع الأدلة الأكثر صدقية، بحيث، في النهاية، تكون الفرضية المرجحة هي الأقل تناقضًا مع الأدلة.
وعند تطبيق هذه المنهجية على واقعة قصف الموقع في ثقبان، يُمكن وضع فرضيتين رئيسيتين: إما أن الموقع قاعدة عسكرية تابعة للحوثيين، أو أنه موقع مدني. صور الأقمار الصناعية قد تُعزز جزئيًا الفرضية الأولى بسبب وجود ما قد تبدو للوهلة الأولى هياكل غامضة، وقد يبدو أن منشور الصلاحي يدعم هذا التصور. إلا أن الاكتفاء بهذه النقاط فقط يدخل ضمن نمط التحيز التأكيدي، خاصة في ظل تجاهل أدلة أخرى تُشير إلى الفرضية البديلة.
على الجانب الآخر، توجد أدلة متعددة تدعم فرضية أن الموقع مدني: أولها تقارير محلية تتحدث عن تنفيذ حملات لإزالة مخالفات البناء في المنطقة، ما يفسر وجود معدات الحفر والنقل. ثانيًا، يمكن أن يكشف تحليل زمني لصور الأقمار الصناعية عن وجود قاعدة خرسانية اختفت لاحقًا، وهو ما يتماشى مع إزالة مبانٍ مخالفة. ثالثًا أن المعدات الظاهرة في الصور هي معدات تستخدم لأغراض مدنية بالأساس، ولا توجد أي معدات عسكرية واضحة. وأخيرًا، أن المصدر الأولي للمعلومة، أي جلال الصلاحي، يُظهر انحيازًا واضحًا في خطابه ضد الحوثيين، ما يُضعف موضوعية سرديته. عند جمع هذه العناصر معًا، يتضح أن فرضية أن الموقع مدني، هي الأكثر اتساقًا مع الأدلة، والأقل تناقضًا معها.
اقرأ/ي أيضًا
الحقيقة من الأعلى.. استخدام صور الأقمار الصناعية في تغطية الحروب
أبرز الادعاءات المضلّلة التي انتشرت بعد اشتباكات جبهة كرش الأخيرة في اليمن