نظريات المؤامرة حول شركات الأدوية: ما تأثيرها على الصحة العامة والثقة المجتمعية؟
تمثّل نظريات المؤامرة المرتبطة بشركات الأدوية الكبرى تهديدًا متزايدًا للصحة العامة والثقة المجتمعية. تدّعي هذه النظريات أن تلك الشركات تخفي علاجات فعالة، تروّج لأدوية غير ضرورية، أو حتى تفتعل الأمراض بهدف تعظيم الأرباح. وبينما توجد انتقادات حقيقية تُوجّه لقطاع صناعة الدواء كالأسعار المرتفعة أو النفوذ السياسي، إلا أن كثيرًا من هذه النظريات يتجاوز الواقع العلمي، ويؤدي إلى نتائج خطيرة على مستوى الوعي الصحي العام.
نظريات المؤامرة حول شركات الأدوية الكبرى
تقدّم نظريات المؤامرة هذه الشركات، خصوصًا الكبرى منها، ككيانات ذات نوايا خبيثة تتلاعب بالحقائق وتخفي العلاجات من أجل مصالح مالية. يزعم بعض أتباع هذه النظريات أن شركات الأدوية لا تكتفي بجني الأرباح، بل تسعى عمدًا إلى إبقاء الناس مرضى، أو حتى إنتاج أمراض جديدة لتوسيع سوقها. ويُصوَّر النظام الصحي برمّته كمؤامرة معقّدة يُبقي عامة الناس في جهل، بينما تتحكم الشركات في القرارات من خلف الكواليس.
ضغط الدم: علاج طبيعي أم مؤامرة دوائية؟
في منشور على منصة إكس حصد أكثر من 180.3 ألف مشاهدة و58 إعادة نشر، يُزعم أن شركات الأدوية تستغل انتشار مرض ارتفاع ضغط الدم، الذي يُصيب قرابة 50% من البالغين عالميًا، وتروّج لأدوية لا تُعالج السبب الجذري للمرض، بل تكتفي بإخفاء الأعراض. ويدعو المنشور إلى خفض الضغط طبيعيًا عبر نمط حياة صحي دون الحاجة للأدوية، مشيرًا إلى أسباب مثل نقص المغنيسيوم، مقاومة الإنسولين، التوتر، وقلة الحركة، واقتراح علاجات مثل المشي، الثوم، والأفوكادو.
هذا الطرح يُضلل القارئ من خلال مزج معلومات صحيحة بأخرى غير دقيقة. صحيح أن نمط الحياة الصحي يساهم في تحسين ضغط الدم، لكن الادعاء بأن الأدوية لا تفعل سوى "إخفاء الأعراض"، غير صحيح علميًا. فالأدوية الخافضة للضغط، مثل مثبطات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين (ACE inhibitors)، لا تعالج الأعراض فقط، بل تستهدف الآليات البيولوجية الأساسية التي تؤدي إلى ارتفاع الضغط. كما تُقلّل من خطر الإصابة بالسكتة الدماغية والنوبات القلبية، وهي عوامل حاسمة في تقليل معدلات الوفاة المرتبطة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
نمط الحياة الصحي، بما في ذلك النظام الغذائي، والرياضة، وتقليل التوتر، يبقى مهمًا، لكنه لا يُغني عن العلاج الدوائي في العديد من الحالات، خاصة في المراحل المتقدمة أو لدى المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة مصاحبة.
دليل فعالية الأدوية يظهر بوضوح في دراسة شاملة أجراها باحثون من "إمبريال كوليدج لندن"، نُشرت في مجلة The Lancet الطبية، إذ تم تحليل بيانات من المسح الصحي الوطني للفترة بين 1994 و2011. وجدت الدراسة أن نسبة المرضى الذين يتلقون علاجًا فعالًا ارتفعت من 32% إلى 58%، بينما تضاعفت نسبة من نجحوا في السيطرة على ضغط الدم من 11% إلى 37%.
البروفيسور نيل بولتر، أحد معدّي الدراسة، صرّح لهيئة BBC قائلًا "لو عالجنا المرضى في عام 1994 كما عالجناهم في 2011، لكان بالإمكان تجنّب نحو 100 ألف حالة خطيرة، تشمل نوبات قلبية وسكتات دماغية ووفيات". وأوضح أن هذا التقدّم يعود إلى تحسّن فعالية الأدوية، وزيادة وعي المرضى، وتطبيق سياسات تشجع الأطباء على تحقيق نتائج علاجية أفضل.
شائعة عن اغتيال جراح أعصاب لكشفه مؤامرة شركات الأدوية
مقطع فيديو حصد 379.6 ألف مشاهدة و1.3 ألف إعادة نشر، يزعم أن جراح الأعصاب الأسترالي الدكتور تشارلي تيو، اغتيل في وضح النهار لأنه كشف تورط شركات الأدوية في إطالة معاناة المرضى عمدًا. غير أن هذا الادعاء عارٍ تمامًا عن الصحة.
تم تعديل المقطع بواسطة الذكاء الاصطناعي. الدكتور تيو ما يزال حيًا، وقد أجرى مقابلة إذاعية حديثة في 12 مايو 2025 على محطة 2GB الأسترالية، كما غطت نشاطه مؤخرًا صحيفة Daily Mail الأسترالية. وتيو معروف بعملياته الدقيقة في أورام الدماغ، لكنه ليس باحثًا في علم الأدوية أو معالجًا بالأدوية البديلة.
ستيفن جندري والادعاء بأن الليكتينات سبب الأمراض المزمنة
في منشور نال 723 ألف مشاهدة و106 إعادة نشر، يُروج لفكرة أن الدكتور ستيفن جندري "خنجر في خاصرة شركات الأدوية الكبرى"، ويزعم أن الليكتينات النباتية الموجودة في البقوليات والطماطم سبب رئيسي في الأمراض المزمنة، ويجب الامتناع عنها نهائيًا.
جندري، طبيب قلب سابق ومؤلف كتاب "مفارقة النبات"، يُعرف بترويجه لنظام غذائي خالٍ من الليكتينات. لكن المجتمع العلمي يعتبر مزاعمه شبه علمية. تقييم علمي مستقل من موقع Red Pen Reviews منح كتابه 29% فقط من حيث الدقة العلمية. كما أكدت مجلة Today’s Dietitian أن الامتناع الكامل عن الليكتينات غير مبرر علميًا، بل قد يضر الصحة بالتقليل من تناول أطعمة مفيدة مثل الفاصولياء والخضروات.
السرطان ونظرية توماس سيفريد
منشور حقق 982.9 ألف مشاهدة و605 إعادة نشر، يروج لأفكار توماس سيفريد، أستاذ علم الأحياء الذي يرى أن السرطان ليس وراثيًا، بل مرض أيضي يمكن "خنقه" عبر تقليل الجلوكوز والجلوتامين، وتحديدًا باتباع النظام الكيتوني وصيام الماء.
رغم أن نظرية "المرض الأيضي" لها بعض الجوانب البحثية المثيرة، إلا أن الأدلة الحديثة تؤكد الطبيعة متعددة الأسباب للسرطان، إذ تلعب الطفرات الجينية دورًا أساسيًا. تقليل الجلوكوز لا يوقف نمو الورم، لأن الخلايا الطبيعية أيضًا تحتاج إليه. النظام الكيتوني قد يكون مفيدًا في حالات خاصة، لكنه ليس علاجًا للسرطان. أما الادعاء بأن صيام الماء يقلل خطر السرطان بنسبة 70% فهو مضلل لا تستند إلى أي دراسة علمية موثوقة.
مزاعم طفيليات ومؤامرة الماسونية
أحد المنشورات بلغت مشاهداته 35.8 ألف مع 150 إعادة نشر، يدّعي أن الماسونية تسيطر على شركات الأدوية وتُدخل طفيليات في الأطعمة والأدوية.
هذا الادعاء يفتقر إلى أي دليل علمي. الطفيليات موجودة فعلًا، ويُقدّر أن نحو 3.5 مليار شخص حول العالم يتأثرون بها، ويُعاني قرابة 450 مليون شخص من أمراض ناتجة عنها. لكن الادعاء بأنها تصيب 95% من الناس مبالغ فيه ولا أساس له. كما لا يوجد أي دليل على أنها تُزرع عمدًا من قبل "جهات خفية".
شركات الأدوية تُنتج بالفعل أدوية فعالة ضد الطفيليات، مثل ميترونيدازول وألبيندازول، والإيفرمكتين، وتُعد هذه الأدوية من الأدوات الأساسية في الصحة العامة. أما ربط الطفيليات بجماعات مثل "الماسونية"، فهو من ضمن نظريات المؤامرة التي تفتقر إلى المنطق والأدلة، وتندرج في إطار الخيال الشعبي لا أكثر.
تآكل الثقة وتراجع الصحة العامة
الإيمان بمؤامرة شركات الأدوية له تأثيرات ملموسة على الصحة العامة. أظهرت دراسة نُشرت في مجلة Scientific Reports في مارس 2025 أن 63.1% من المشاركين في بولندا يعتقدون أن شركات تخفي الآثار الجانبية للأدوية، و46.2% يؤمنون بوجود علاج للسرطان يتم إخفاؤه. هذا الإيمان يرتبط بانخفاض معدلات التطعيم وزيادة الاعتماد على العلاجات البديلة، ما قد يؤدي إلى تفشي الأمراض القابلة للوقاية.
كما أن الثقة في الأطباء والصناعة الصيدلانية تتأثر سلبًا. فقد وجدت الدراسة البولندية ارتباطًا سلبيًا بين الإيمان بهذه النظريات والثقة في الأطباء (r=-0.264) والصناعة الصيدلانية (r=-0.217)، مما يقلل من احتمال التزام الأفراد بالإرشادات الطبية ويزيد من المخاطر الصحية، خاصة في سياق الأمراض المزمنة التي تتطلب علاجًا مستمرًا.
جذور الشك: وقائع غذّت المؤامرات
من المهم الإقرار بأن بعض الأحداث ساهمت فعليًا في تغذية هذه النظريات. في عام 2020، اعترفت شركة Purdue Pharma بالذنب في قضايا جنائية تتعلق بتسويقها المضلل لعقار OxyContin، والذي كان له دور محوري في أزمة الأفيون في الولايات المتحدة. وفي 2015، رفع المدير التنفيذي مارتن شكريلي سعر دواء Daraprim من 13.5 إلى 750 دولارًا للقرص، ما أثار موجة غضب عالمي ورسّخ صورة نمطية عن شركات لا ترى المرضى سوى كمصدر للربح.
هذه الحالات وغيرها زادت من الشكوك العامة، ومهّدت الطريق لتصديق روايات أكثر تطرفًا عن صناعة الأدوية.
هل يمكن فعلًا إخفاء مؤامرة بهذا الحجم؟
وفقًا لدراسة منشورة في مجلة PLOS ONE عام 2016، أجراها الدكتور ديفيد غرينهالغ، الباحث في جامعة أكسفورد، فإن أي مؤامرة يشارك فيها أكثر من خمسة آلاف شخص مثل العلماء، والأطباء، والمحققين، وموظفي الهيئات الرقابية لا يمكن أن تبقى سرًا لأكثر من ثلاث سنوات على الأكثر. الدراسة استندت إلى حساب احتمال التسريب الطبيعي، استنادًا إلى حوادث تسريبات سابقة في مجالات علمية وسياسية.
اقرأ/ي أيضًا
أبرز الادعاءات المرتبطة بنظريات المؤامرة التي رصدها مسبار
الدوافع النفسية والاجتماعية وراء تصديق الادعاءات المرتبطة بنظريات المؤامرة