تحقيق: إسرائيل تعتمد خوارزمية لتصنيف أحياء مأهولة في غزة كمناطق خالية لاستهدافها
كشف تحقيق مشترك جديد أجرته مجلة +972 الإسرائيلية وموقع "لوكال كول" العبري أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم خوارزمية يعلم عدم دقتها لتصنيف أحياء في قطاع غزة على أنها "خضراء"، أي خالية من السكان، بهدف شنّ غارات جوية تستهدفها. وأودت بحياة مئات المدنيين خلال الأسابيع الأخيرة.
وصرّح مصدران استخباريان للمجلة والموقع أن الجيش الإسرائيلي نفّذ غارات على أحياء سكنية في غزة اعتُبرت خالية من السكان، رغم علمه بأن العديد من المنازل المستهدفة كانت مأهولة بالمدنيين الذين لم يتمكّنوا من مغادرتها أو لم يرغبوا في ذلك.
ويستند هذا التصنيف إلى تحليل خوارزمي بدائي لأنماط استخدام الهواتف المحمولة على نطاق واسع، وليس إلى تقييم دقيق ومفصل لكل منزل على حدة قبل القصف.

وأفاد المصدران الاستخباراتيان بأنهما لاحظا خلال شهر مايو/أيار الفائت، أن الجيش كان يقصف منازل ويقتل عائلات، بينما كانت تُسجّل تلك المنازل داخليًا على أنها "فارغة أو شبه فارغة"، استنادًا إلى نتائج غير دقيقة لتلك الخوارزمية.
وقال أحد المصدرين "هذا التقدير لمستوى الإشغال يستند إلى مجموعة من الخوارزميات شديدة السوء"، مضيفًا "من الواضح أن تلك المنازل كانت مأهولة، ولم يتم إخلاؤها فعليًا". مشيرًا إلى أنه "عند الاطلاع على جداول الإخلاء، يظهر أن كل شيء ملوّن باللون الأخضر، ما يعني أن ما بين 0 و20% من السكان بقوا. لكن المنطقة بأكملها التي كنا فيها، في خان يونس، كانت مصنَّفة كمنطقة خضراء، ومن الواضح أنها لم تكن كذلك".
ويُعدّ مثالًا على ذلك ما حدث يوم 24 مايو/أيار الفائت، حين استهدفت غارة جوية منزل الطبيبة آلاء النجار في خان يونس، ما أسفر عن مقتل تسعة من أطفالها العشرة، إلى جانب زوجها الطبيب حمدي النجار، الذي فارق الحياة متأثرًا بجراحه بعد عدة أيام. ونقل شقيق زوجها لصحيفة ذا غارديان أن "بعض الأطفال تشوّهوا، وجميعهم احترقوا". وفي بيان صحفي أعقب الحادثة، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه استهدف "مشتبهًا بهم"، مضيفًا أن خان يونس كانت قد أُخليت.
خوارزمية الإخلاء والإحصاء الخاطئ للأرواح البشرية
بعد تصنيف حيّ ما على أنه "أخضر"، تقوم خوارزمية الاستخبارات بحساب عدد السكان المتبقين في كل منزل بناءً على معدل الإخلاء المقدّر للمنطقة. فإذا افترضت الخوارزمية أن 80% من السكان قد غادروا، فإن العدد المتوقع للضحايا في كل منزل يُخفض بنسبة مماثلة، غالبًا دون منح وقت كافٍ لإجراء تقييم دقيق. فعلى سبيل المثال، في منزل كان يقطنه 10 فلسطينيين قبل اندلاع الحرب، سيُظهر النظام أن اثنين فقط لا يزالون داخله. وعلّق أحد المصادر الاستخباراتية قائلًا "إنه نهج إحصائي في ارتكاب الأخطاء".
وأوضحت المصادر أن هذه الآلية تمكّن الجيش من الموافقة على عدد أكبر من الغارات الجوية مع الادعاء بالتزامه بمبدأ التناسب، وأشاروا إلى أن الجيش لا يُجري عادة تقييمات بعد تنفيذ الغارات لتحديد عدد المدنيين الذين قُتلوا فعليًا، ولذلك فهو لا يُعرف بدقة عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ورغم أن هذا الحساب الإحصائي يؤدي إلى تقديرات غير دقيقة لعدد المدنيين في المنازل، إلا أن القتل الواسع للمدنيين في غزة لا يُعد ناتجًا عن خطأ، بل نتيجة مباشرة لسياسات إسرائيل المتساهلة تجاه الإضرار بالمدنيين، بحسب عدة مصادر. كما كشفت تقارير سابقة لمجلة +972 وموقع "لوكال كول"، أن سياسة الجيش سمحت للضباط باستهداف منازل يُشتبه بوجود مسلحين فيها، حتى وإن أدى ذلك إلى مقتل ما يصل إلى 20 مدنيًا في كل منزل، ومئات المدنيين في حال استُهدف أحد القادة من ذوي الرتب العليا.
وفي هذا السياق، صرّحت الدكتورة مارتا بو، كبيرة الباحثين في القانون الدولي في معهد آسر في لاهاي، لمجلتي +972 و"لوكال كول"، أن استخدام بيانات إحصائية وغير دقيقة لتقدير الأضرار التي تلحق بالمدنيين يُعد انتهاكًا واضحًا لمبدأ الحيطة في القانون الدولي، والذي يُلزم الدول باتخاذ جميع التدابير الممكنة لتقليل الأذى اللاحق بالمدنيين.
وأشار المصدران إلى أنه منذ خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار في مارس/آذار الفائت، فإن غالبية العسكريين الذين استُهدفوا كانوا من ذوي الرتب المتدنية، وبعضهم لا يحمل أي رتبة على الإطلاق، وقد صُنّفوا في السجلات الاستخباراتية على أنهم "عملاء"، وهي رتبة أدنى من قادة الفرق أو الكتائب، ما يجعل قيمتهم العسكرية محدودة للغاية.
ووفقًا لأحد المصدرين، فإن عددًا من هذه الهجمات في الأسابيع الأخيرة أسفر فقط عن مقتل مدنيين، ونُفّذت رغم غياب التأكد من وجود أهداف عسكرية داخل المباني المستهدفة. وترجع مثل هذه "الأخطاء"، بحسب عدة مصادر، إلى السياسات العسكرية التي تسمح بتنفيذ الضربات دون إجراء تحقّق ميداني شامل، ومن دون التثبت في الزمن الحقيقي من وجود الهدف داخل المبنى.
قصف عشوائي بهدف الإبادة
من جانبه، قال محمد شحادة، المحلل السياسي الفلسطيني والزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن السياسات الإسرائيلية الحالية يجب فهمها ضمن سياق أوسع لجهود منهجية تهدف إلى تدمير كل ما تبقى من القطاع، موضحًا "لم يتم إخلاء أي حي في غزة بالكامل، حتى في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل منذ فترة، لا يزال هناك مسنون، وأشخاص من ذوي الإعاقة، ونساء حوامل، وأطفال، وأيتام لا يملكون من يعينهم على مغادرة أماكنهم".
وأضاف شحادة أن وجود عناصر من حركة حماس أو أفراد يُعتقد بانتمائهم إليها في مختلف أنحاء غزة، يُستخدم كمبرر لسياسات وصفها بأنها تمثّل "قصفًا ساحقًا أو عشوائيًا"، إذ يُستغل وجود أفراد غير مسلحين من الحركة كذريعة لتحقيق الهدف الحقيقي وهو "إلحاق أكبر قدر ممكن من الدمار". وأشار إلى أنه قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تستهدف البنية التحتية المدنية في غزة في محاولة لردع السكان عن دعم حماس، مضيفًا "أما الآن فالأمر لا يتعلق بالردع، بل بالإبادة".
استهداف المواقع المدنية وتصاعد أعداد الضحايا
منذ أن خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار في 18 مارس الفائت، باتت الغارات الجوية تودي بحياة العشرات من الفلسطينيين في غزة يوميًا. ووفقًا لتقارير وزارة الصحة، بلغ متوسط عدد الضحايا في غزة خلال شهر مايو/أيار نحو 62 شخصًا يوميًا.
ووفقًا لتحقيق جديد أجرته صحيفة ذا غارديان، فإن العديد من الغارات الجوية الأكثر دموية في الأسابيع الأخيرة استهدفت مدارس ومستشفيات مكتظة بالنازحين ضمن "استراتيجية ممنهجة"، وفقًا لمصادر. وكانت هذه المواقع تُعد سابقًا "مواقع حساسة"، إلا أنها أصبحت تُصنّف حاليًا من قبل الجيش الإسرائيلي على أنها "مراكز ثقيلة"، بناءً على مزاعم وجود أعداد كبيرة من عناصر حماس فيها، ما أدى إلى تخفيف إجراءات الموافقة على شنّ الغارات ضدها.

ومنذ أوائل مايو الفائت، قصف الجيش الإسرائيلي ما لا يقل عن ست مدارس في غزة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 120 فلسطينيًا. وبحسب مجلة +972 وموقع "لوكال كول" فإن عدد المدنيين الذين قُتلوا في إحدى هذه المدارس كان أعلى بثلاثة أضعاف من التقديرات الاستخباراتية للجيش بشأن عدد الأشخاص الموجودين فيها.
وفي 12 مايو الفائت، استهدفت غارة جوية مدرسة جباليا للبنات، ما أدى إلى مقتل 15 فلسطينيًا. روى أحد الناجين كيف اضطروا إلى جمع الجثث في أكياس على درج المدرسة "كأنها لحم". وقال ناجٍ آخر إن الانفجار أيقظه عند الساعة الواحدة صباحًا، فركض ليجد الفصول الدراسية تشتعل بالنيران.
وقال الناجي "بينما كنا نشاهد الجثث تحترق، اتصل بنا الجيش وأمرنا بإخلاء المدرسة لأنهم سيقصفونها مجددًا. لم نتمكن من إنقاذ الأطفال المصابين والمحترقين. كان لا يزال هناك أشخاص على قيد الحياة". وعندما عادوا إلى المدرسة لاحقًا، وجدوا أن هؤلاء الأشخاص قد لقوا حتفهم.
استهداف المدنيين تحت ذريعة الأهداف العسكرية
وغالبًا ما يكرر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي مزاعم بأن مراكز قيادة حماس تقع في المدارس، غير أن مصدرًا استخباراتيًا صرّح لمجلة +972 وموقع "لوكال كول" أن هذه المزاعم غالبًا ما تكون مبالغًا فيها، مضيفًا "تقصف فصلين دراسيين في مدرسة وتقتل أطفالًا لمجرد وجود عدد قليل من العناصر منخفضة المستوى. يفعلون ذلك لأن حياة سكان غزة تُعد بلا قيمة، ويُنظر إليهم على أنهم عقبة".
وأفادت تقارير سابقة لمجلة +972 وموقع "لوكال كول" بأن الجيش الإسرائيلي استهدف بشكل منهجي، طوال الحرب الجارية في غزة، عناصر عسكرية مشتبهًا بهم حتى عندما لا يُشكّلون تهديدًا مباشرًا، ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين في كل غارة يُصرّح بها ضد ما يُسميه "أهدافًا عسكرية". وأكدت مصادر استخباراتية متعددة لهذا التحقيق أن الجيش لا يزال ينفّذ عمليات "القتل المستهدف" ضد عناصر مشتبه بهم في مواقع مدنية مثل المدارس أو منازل العائلات، ما تسبب في بعض من أكثر الهجمات دموية منذ استئناف الحرب في مارس الفائت.
اقرأ/ي أيضًا
مجزرة المساعدات في رفح: الجيش الإسرائيلي يتنصل من مسؤوليته والشهادات والأدلة تثبت تورطه
بشهادات وأدلة.. استخدام إسرائيل للمدنيين كدروع بشرية في غزة كان ممنهجًا