سياسة

أدرعي وانقلاب السردية: دعاية إسرائيلية تُحمّل الفلسطينيين مسؤولية معاناتهم

فاطمة الخطيبفاطمة الخطيب
date
18 يونيو 2025
آخر تعديل
date
4:56 ص
19 يونيو 2025
أدرعي وانقلاب السردية: دعاية إسرائيلية تُحمّل الفلسطينيين مسؤولية معاناتهم
أدرعي يستخدم أساليب دعائية لتقويض الرواية الفلسطينية | مسبار

منذ استئناف الحرب الإسرائيلية على غزة في مارس/آذار 2025، كثّف المتحدث باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، نشاطه الدعائي الموجّه للجمهور العربي، خاصة عبر منصة إكس.  

وظّف أدرعي خطابًا متنوعًا يمزج بين التحريض والتبرير والموعظة الدينية بهدف إحداث انقلاب سردي جذري: تحويل الاحتلال من قوة مدمّرة إلى طرف عقلاني، وتحميل الضحية مسؤولية العنف والمعاناة.

يقدم هذا المقال، استنادًا إلى عينة من منشورات أدرعي على منصة إكس في الفترة الممتدة بين 18 مارس و31 مايو/أيار 2025، تحليلًا نقديًا لبنية هذا الخطاب، وآلياته، واستراتيجياته المتكررة، مسلطًا الضوء على كيفيّة توظيف الدين، والمناسبات الاجتماعية، والتحريض على الصحفيين، والتلاعب بالعواطف الشعبية لخدمة أهداف دعائية تصب في صالح السردية الإسرائيلية وتُقوّض نظيرتها الفلسطينية. 

 شيطنة حماس وتحميلها مسؤولية المعاناة 

ضمن عينة المنشورات التي نشرها المتحدث باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، يبرز خطاب دعائي ممنهج يُحمّل حركة حماس كامل المسؤولية عن المعاناة الإنسانية في قطاع غزة، في محاولة واضحة لـقلب السردية السائدة التي ترى إسرائيل مصدرًا مباشرًا لتلك المعاناة. 

ففي منشور نشره يوم 29 مايو، يقول أدرعي: "حاولت حماس على مدار أشهر ترويج كذبة التجويع ليتضح أن حماس خبأت أطنانًا كبيرة من الطحين في مخازنها"، مكملًا "من يوجّع أهالي غزة؟ الله ينتقم منكم أيها الكفار". 
هنا، يوظف أدرعي أسلوبًا مزدوجًا يجمع بين الاتهام الصريح واللغة الدينية التحريضية، فهو لا يكتفي باتهام الحركة بتجويع السكان عمدًا، بل يصف قادتها بـ"الكفار"، ما يعكس محاولة لإضفاء بعد ديني على الصراع بهدف التأثير في المتلقي العربي والمسلم تحديدًا، وإثارة مشاعر الغضب ضد "العدو القريب" بدلًا عن "العدو البعيد". 

 شيطنة حماس وتحميلها مسؤولية المعاناة

يتكرر هذا النهج في منشوره في 22 من الشهر ذاته، إذ يصف قادة حماس بأنهم "يأكلون حتى التخمة فوق عروش من ذهب، بينما الأطفال في الشوارع يحلمون برغيف". هذه الصورة البلاغية، المبنية على التضاد الطبقي، تهدف إلى تصوير قيادة حماس كـ"نخبة فاسدة" تعيش في ترف على حساب جوع الفقراء، في خطاب يحاكي أنماط التحريض الشعبي ضد الأنظمة الفاسدة في سياقات أخرى. 

أدرعي

كما يتعزز هذا الخطاب بمنشور آخر في 20 مايو الفائت على لسان رئيس الأركان الإسرائيلي، إذ يقول أدرعي "لسنا الذين أتوا بهذا الدمار عليكم، بل هي قيادتكم التي تحتجز مختطفينا". 
بهذه الصيغة، يحاول المتحدث العسكري تبرئة الاحتلال من مسؤولية التدمير واسع النطاق الذي لحق بغزة، محولًا دفة المسؤولية نحو حركة حماس، بادعاء أنها اختارت "الدمار" عن قصد، عبر احتجاز جنود إسرائيليين ورفض التفاوض. 

يُظهر هذا الخطاب بوضوح اعتمادًا متكررًا على استراتيجية دعائية تُعرف بالـ"Narrative Inversion" أو "انقلاب السردية"، وهي منهجية إعلامية تهدف إلى تحميل الطرف المُعتدى عليه مسؤولية ما يتعرض له، وتقديم المعتدي كطرف أخلاقي أو محايد، فبدلًا من أن يظهر الاحتلال كفاعل مباشر للحصار والقصف والتجويع، يتم تصويره كطرف خارجي يشاهد "المأساة" ويشفق على الضحايا، بينما يُجرَّم الطرف الفلسطيني ويُجرد من الإنسانية. 

هذه الفئة من التغريدات تشكّل جزءًا من بنية خطابية أوسع يعمل أدرعي من خلالها على فصل سكان غزة عن فصائلهم الفلسطينية، وزرع الشك والكراهية الداخلية، وتهيئة الأرضية النفسية والذهنية لتقبل الخطاب الإسرائيلي في الرأي العام العربي. 

 تبرير استهداف المدنيين والمراكز الحيوية 

في سياق الحرب المستمرة على قطاع غزة، عمد أدرعي إلى إنتاج خطاب دعائي يبرر القصف المكثف على المناطق المدنية، ويُظهِر الجيش الإسرائيلي بمظهر "القوة الأخلاقية الدقيقة"، التي تستهدف "الإرهابيين" فقط، وتتخذ كافة الاحتياطات لحماية المدنيين، رغم وقوع الضحايا في كل مرة. 

ففي منشور له بتاريخ 19 مايو الفائت، يخاطب أدرعي سكان محافظة خان يونس بقوله "من هذه اللحظة، ستُعتبر محافظة خانيونس منطقة قتال خطيرة، جيش الدفاع الإسرائيلي سوف يشن هجومًا غير مسبوق، من أجل سلامتكم، أخلوا فورًا". 

إنذار أدرعي

هذا الخطاب يوظف أسلوب "التحذير الأخلاقي" الذي يُستخدم عادة في حالات الكوارث، لكن هنا،يُؤطّر ليبرّر الهجوم العسكري الواسع، ويحمل في طيّاته اتهامًا مباشرًا للفصائل الفلسطينية بـ"جلب الكارثة للسكان". هكذا تُصبح عملية الإخلاء المفروضة قسرًا نتيجة للتهديد العسكري، أداة لإضفاء شرعية مسبقة على أي قصف قادم، مهما بلغ مداه التدميري. 

في منشور سابق يعود إلى 13 مايو، يعلن أدرعي عن استهداف محيط مستشفى ناصر، قائلًا إن الغارة كانت "دقيقة وموجهة" واستهدفت "إرهابيين بارزين"، منهم شخص اتهمه بالعمل "تحت غطاء صحفي"، ونشر "مشاهد من أعمال القتل والنهب". هذا التوصيف يُستخدم كمبرر مباشر لاستهداف محيط المستشفى، أحد أهم المنشآت الصحية جنوبي القطاع، في سياق منهجي لتجريم العمل الإعلامي وإدراجه ضمن النشاط "الإرهابي"، وهو نمط بات متكررًا في خطاب الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب. 

ويدّعي أدرعي أن الجيش اتخذ "خطوات عديدة لتقليص إمكانية إصابة المدنيين"، عبر "الاستطلاع والذخيرة الدقيقة"، رغم أنّ نتائج الغارة الميدانية كثيرًا ما تُكذّب هذا الخطاب، في ضوء عدد الضحايا المدنيين الذين يسقطون في محيط تلك المواقع.

 أدرعي

وعاد أدرعي في منشور له بتاريخ 17 إبريل، إلى استحضار "حجّة الدروع البشرية"، مخاطبًا الفصائل الفلسطينية بلغة تهكّمية "إذا كنتم أبطالًا كما تزعمون، لماذا تختبئون بين المدنيين؟".

وتابع بأن "أهالي غزة باتوا يطالبونكم علنًا بالابتعاد عن المستشفيات والمدارس". هذا الخطاب، الذي يوظف اللسان المحلي المفترض، يهدف إلى تقديم الاحتلال بوصفه صوت العقل والحماية، في مقابل "حماس المتخفية"، ويبرر استهداف المراكز المدنية استنادًا إلى رواية جاهزة عن استخدام الفصائل لها لأغراض عسكرية. 

ما يجمع هذه التغريدات هو أنها تنتمي إلى إستراتيجية تبريرية معقدة: 

  • تُعلن إسرائيل مسبقًا عن الهجمات لتضفي على عملياتها شرعية دولية ("نُحذر السكان"). 
  • تُحدد هدفًا عالي القيمة ("قيادات، إرهابيون، متسللون"). 
  • تُنكر النية في إصابة المدنيين ("ذخائر دقيقة، استطلاع"). 
  • ثم تُحمّل الفصائل مسؤولية سقوط الضحايا، عبر سردية "الدروع البشرية" المتكررة. 

بهذا، يتحوّل القصف إلى واجب أخلاقي وضرورة أمنية، ويُعاد تأطير العدوان العسكري على المناطق السكنية بأنه "عملية نظيفة ودقيقة"، حتى عندما تكون نتائجه على الأرض مغايرة تمامًا. 

استحضار الدين والمناسبات الاجتماعية لتشويه الخصوم 

في إطار الحرب النفسية والإعلامية، يواصل أدرعي، استخدام الدين وتحديدًا النصوص والرموز الإسلامية في خطابه الدعائي الموجه للجمهور العربي، وخاصة خلال المناسبات الدينية مثل رمضان وعيد الفطر. ويهدف هذا الخطاب إلى أمرين متوازيين: شيطنة الفصائل الفلسطينية والمقاومة من جهة، وتقديم إسرائيل كطرف متسامح ومحب للسلام من جهة أخرى. 

وفي هذا السياق، نشر منشورًا في 29 مارس الفائت بمناسبة عيد الفطر، يبدأ أدرعي فيه خطابه بتهنئة تقليدية موجهة إلى "الشعوب المحبة للسلام"، لكنه سرعان ما ينقلب إلى خطاب إقصائي، إذ يقول: أما للمنظمات الإرهابية كحماس، وحزب الله، والحوثيين، فلا عيد لهم... لأن من اختار طريق الدم لا يعرف طعم الفرح". 

هذا التمييز بين "المسلمين المسالمين" و"الإرهابيين المحرومين من العيد"، يُوظَّف لتسويق صورة إسرائيل كقوة عقلانية تواجه "جماعات ظلامية"، في محاولة لتقويض التعاطف الشعبي العربي مع قوى المقاومة، واستبداله بنفور ديني أخلاقي. 

وفي منشور آخر بتاريخ 23 مارس، يتوجه أدرعي إلى الجمهور بصيغة وعظية، قائلًا: 
"في العشر الأواخر من رمضان.. ألا تخافون عقاب الآخرة؟ الإسلام من الشامتين والحاقدين وداعمي دواعش حماس براء". 
هنا، يستخدم أدرعي لغة الفقه الإسلامي، متقمصًا دور "الناصح الديني"، ليُدين المتعاطفين مع المقاومة، ويربطهم بـ"دواعش حماس"، في محاولة لإحداث تشويش دلالي يجعل من كل مقاوم فلسطيني قريبًا من نموذج "الإرهابي التكفيري". ويعتمد هذا الأسلوب على نزع الشرعية الدينية عن العدو من خلال تسفيه نواياه وأفعاله بلغة تُوحي بالتقوى. 

الآية القرآنية التي افتتح بها أحد منشوراته: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ...﴾ تُستخدم ضمن خطاب مزدوج يربط بين الفساد في الأرض وبين كل من يشمت في الحرائق داخل إسرائيل، قائلًا "سنخمدها قريبًا وأرض إسرائيل ستزهر من جديد، كما ستكثف قوات الأمن جهودها لملاحقة كل من تسوّل له نفسه الإفساد في الأرض".

بهذا الربط، يُحاول أدرعي شيطنة الفرح الشعبي العربي بالحرائق التي اشتعلت في إسرائيل آنذاك باعتباره "تحريضًا إرهابيًا"، إذ وظف مفردات قرآنية مثل (الفساد، العهد، الخاسرون) لإضفاء بعد "شرعي" على قمع أي مظاهر تضامن مع الأذى الذي يصيب إسرائيل.

 أدرعي يستشهد بالقرآن

وفي منشور له بتاريخ 21 مارس الفائت، يطرح أفيخاي أدرعي تساؤلات تحريضية في يوم "عيد الأم"، مستهدفًا "أمهات الإرهابيين" بأسلوب يستفز المشاعر ويثير جدلًا أخلاقيًا حول مسؤولية الأم في نشأة أبنائها. يتساءل: 

"عيد للندم أم للفخر؟ يا أم الإرهابي، هل تبكين على ابنك؟ أم على الضحايا الذين أبكاهم؟". ويختتم التغريدة بعبارة: "عيد الأم لمن أنجبن الحياة، لا لمن ربّين سارقيها". 

مُجسدًا بذلك خطابًا دينيًا وأخلاقيًا يُستخدم لتبرير رفض المجتمع الفلسطيني والإدانة المجتمعية تجاه الأفراد المرتبطين بالمقاومة المسلحة، من خلال تحميل الأمهات مسؤولية أفعال أبنائهن وتحويل القضية الوطنية إلى نزاع أخلاقي ديني. 

 ما يجمع هذه التغريدات هو استعمال مكثف للخطاب الإسلامي الموجّه، سواء عبر الآيات، أو التهاني الدينية أو الدعاء في سياق دعائي بحت. وتُستخدم هذه الأدوات لاستمالة الجمهور المسلم، وتضليل وعيه، وإحداث شرخ عاطفي ونفسي بينه وبين المقاومة الفلسطينية. 

هذا النوع من الخطاب الدعائي، الذي يمزج بين الدين والسياسة، يُعدّ من أخطر أنماط الحرب النفسية الثقافية، لأنه لا يستهدف المواقف السياسية فقط، بل يسعى إلى تفكيك البنية القيمية للجمهور، عبر توظيف أدواته الروحية ضده. 

التحريض على الصحفيين الفلسطينيين  

تعتمد منشورات أفيخاي أدرعي بشكل واضح على استراتيجية دعائية هدفها الأساسي هو تحويل الصحفيين الفلسطينيين من ناقلين للأحداث إلى أعداء يجب استهدافهم، من خلال توجيه اتهامات مباشرة تربطهم بحركة حماس أو الفصائل المسلحة. 

في هذا الخطاب، لا يُنظر إلى الصحفيين كمهنيين مستقلين يقومون بعملهم في ظل ظروف صعبة، بل يُوصفون بأنهم "إرهابيون" أو "متعاونون مع الجماعات المسلحة"، كما في وصفه الصحفي حسام شبات بأنه كان "إرهابيًا في كتيبة بيت حانون" قبل أن يُستخدم إعلاميًا. وتُعتبر هذه الاتهامات ذريعة قانونية وأخلاقية لاستهدافهم، إذ تُسوّق لهم على أنهم ليسوا مجرد مراسلين، بل عناصر نشطة في الحرب، ما يبرر عمليات الاعتقال، القتل، أو التضييق عليهم. 

ويعمد أدرعي في منشوراته إلى وصف إعلاميي القنوات التابعة لحماس، مثل قناة "الأقصى"، بـ"الأبواق التحريضية" التي تستغل معاناة السكان لتمرير أجندة سياسية وإخفاء الحقائق، ما يعزز فكرة أن الإعلام الفلسطيني ليس جهة محايدة، بل جزء من "العدو" الذي يجب مواجهته. 

أدرعي عن المسلمين

تشويه المقاومة من بوابة "الموعظة" 

في عدة منشورات موجهة إلى الجمهور الفلسطيني، يعمد أدرعي إلى استخدام خطاب وعظي ديني، يتضمن رسائل فردانية تُحمّل الشاب الفلسطيني وحده مسؤولية مصيره، وتدعوه إلى "الاستبصار" في ما يسميه "طريق الضياع" الذي تقوده إليه الفصائل المسلحة، وعلى رأسها حركة حماس. يعتمد هذا الخطاب على تفكيك الرواية الجماعية الفلسطينية، واستبدالها بسردية فردية دينية تُملي على الفرد مراجعة خياراته في ظل "الندم" و"الحقد" و"الضلال". 

في منشور له بتاريخ 22 مارس الفائت، يروّج أدرعي لما سماه "الحلقة الثالثة والأخيرة من المسلسل الرمضاني الموجه للشباب الفلسطيني من جيش الدفاع"، مرفقًا بمقطع فيديو "أنيميشن" متسائلًا: 
"هل الشاب الفلسطيني محمد جاهز يختار مستقبله بإيده لو كان يعلم تداعيات أفعاله؟". 
في محاولة لتصوير المقاومة كخيار طائش أو تضليلي يقود إلى الدمار الشخصي، مع إغفال تام للظروف السياسية والاقتصادية والاحتلال العسكري الذي يحكم سياق هذا "الاختيار".

استخدام الموعظة عند أدرعي

وفي منشور آخر بتاريخ 4 إبريل الفائت، يقدّم أدرعي ما يشبه الدعاء والموعظة "اللهم نسألك التوبة لأولئك الضالين، الحاقدين الذين ينطقون بالسباب، فعافهم، يتمنون الأذى لغيرهم فنورهم". 
وهي رسالة تخفي خطابًا سياسيًا تحت ستار روحي، وتستعمل التديّن كوسيلة لإعادة توجيه مشاعر الغضب والرفض الشعبي بعيدًا عن الاحتلال، نحو نقد الذات وتبني مشاعر الذنب، باعتبار الفلسطينيين "حاقدين"، أو "شاتمين"، لا "مقاومين". 

يُظهر هذا النوع من الخطاب سعيًا منهجيًا لتوظيف لغة دينية عاطفية، تبدو في ظاهرها خطاب نصيحة، لكنها تتبنى في جوهرها أجندة تحييدية تُفرغ النضال الفلسطيني من محتواه الجمعي والسياسي، وتحصره في خيار فردي خاطئ يمكن تجنّبه بالتوبة والتنوير الشخصي. 

التحول من التسويق الأخلاقي إلى التحريض العسكري 

يتكامل تحليل منشورات أفيخاي أدرعي خلال الحرب المستأنفة على غزة في مارس 2025، مع ما رصده "مسبار" في تقريره السابق الصادر في السادس من سبتمبر/أيلول 2023، أي قبل الحرب الإسرائيلية بشهر، حول استراتيجية الدعاية الإسرائيلية الموجّهة للفلسطينيين. يشير التقرير إلى ما يُسمى بـ"استراتيجية الاندماج الأخلاقي"، والتي تقوم على إظهار إسرائيل كدولة إنسانية ومتطورة تكنولوجيًا وذات وجه حضاري، تسعى لخدمة الفلسطينيين لا السيطرة عليهم، من خلال لغتها ووسائطها ومنابرها الموجّهة للجمهور العربي، وبالأخص الفلسطيني. 

ما رصده "مسبار" في ذلك الحين من استخدام أدرعي للخطاب العاطفي والديني في مخاطبة الفلسطينيين، سواء في رمضان، أو عيد الأم، أو حتى من خلال تعابير لغوية وتلاعب بمفاهيم مثل "التحريض" و"العنف"، يُعاد إنتاجه اليوم في سياقات أكثر حدّة، وأكثر مباشرة في التحريض على الصحفيين والأمهات والمقاومين. 

بين خطاب "الخلاص الفردي" قبل الحرب، و"الشيطنة الجماعية" أثناءها، تتبدى القفزة من محاولة تجميل صورة الاحتلال إلى تبرير صريح لخطابه العنيف والمحرّض، مع تصاعد العنف الميداني في غزة والضفة الغربية. وهو ما يعكس انتقالًا تكتيكيًا من الترويج الإنساني إلى التحريض الممنهج، خاصة حين تتحوّل المناسبات الدينية والاجتماعية إلى منصّات لمهاجمة الأمهات، وتبرير استهداف الصحفيين بوصفهم "أذرعًا لحماس". 

المسلسل الفلسطيني أدرعي

أنماط دعاية متكررة في منشورات أدرعي 

أظهرت تقارير سابقة لمسبار أن أفيخاي أدرعي، اعتمد في خطاباته الرقمية على نمط متكرر من نشر ادعاءات غير موثقة وتضليل الرأي العام باستخدام صور ووثائق منزوعة السياق. 

في تقرير صدر بتاريخ 17 مايو الفائت، فنّد "مسبار" ادعاء أدرعي حول وجود مقر قيادة لحركة حماس ونفق عسكري تحت المستشفى الأوروبي في خانيونس، وذكر أن الصور والمقاطع التي نشرها الجيش الإسرائيلي تعود إلى مدرسة جنين الثانوية المجاورة للمستشفى، وليس للمستشفى نفسه. كما لم تُظهر أي أضرار في المدرسة التي قيل إن النفق تحتها، بينما اقتصرت الأضرار على ساحة المستشفى، دون تقديم إثباتات مادية على وجود نفق أو غرفة عمليات. 

أدرعي

وفي تقرير سابق صدر بتاريخ الرابع من أغسطس/آب 2024، تناول "مسبار" مزاعم أدرعي بشأن استهداف الصحفي الفلسطيني ومراسل الجزيرة إسماعيل الغول، الذي قتل بغارة إسرائيلية في 31 يوليو/تموز 2024. 

زعم أدرعي أن الغول كان "عنصرًا في الجناح العسكري لحماس"، ونشر صورة لوثيقة قال إنها تعود لعام 2021 تضمنت اسم الغول ضمن “قائمة عناصر حماس”. 

 لكن تحقيق مسبار أشار إلى تناقض واضح في الرواية الإسرائيلية، إذ سبق لقوات الاحتلال أن اعتقلت الغول في مجمع الشفاء في مارس 2024 وحققت معه 12 ساعة ثم أفرجت عنه، وهو ما يتعارض مع الادعاء بأنه كان "ناشطًا عسكريًا بارزًا"، إذ إن الإفراج عنه بعد التحقيق يطعن بمصداقية هذه المزاعم. 

كما وثق الغول بنفسه في مقابلة عقب إطلاق سراحه، تفاصيل اعتقاله وتنكيل قوات الاحتلال به وبعدد من الصحفيين، ومصادرة هواتفهم ومعداتهم دون أي تهمة واضحة، وهو ما يُشير إلى استهداف الصحفيين كجزء من حملة ممنهجة لإسكات الأصوات الإعلامية، لا لملاحقة عناصر عسكرية كما يُروج أدرعي.  

وفي سياقٍ مُتصل، أصدر مسبار تقريرًا موسّعًا في 5 مارس 2024، يتضمن رصد وتفنيد عدد من الادعاءات البارزة التي روّج لها المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي عبر حساباته على منصات التواصل، في سياق تغطية الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة. 

وقد اتسمت هذه الادعاءات بنمط واضح من التضليل المعلوماتي واستخدام صور أو روايات منقوصة أو مشكوك بصحتها لتبرير استهداف المدنيين والبنية التحتية. 

من بين هذه المزاعم، ادعاء أدرعي أن حركة حماس تمنع المدنيين من النزوح إلى الجنوب، مستندًا إلى مكالمة هاتفية نشرها بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023. غير أن “مسبار” تواصل مع شهود عيان وصحفيين ميدانيين أكدوا أن حماس لم تمنع السكان من النزوح، وأن ما تم ترويجه يتعارض مع الواقع الفعلي للنزوح الجماعي الذي حدث قسرًا بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل. 

في السياق ذاته، روّج أدرعي لرواية تزعم أن جنوب قطاع غزة "منطقة آمنة" للنازحين. 

 لكن التقرير كشف أن قوات الاحتلال ارتكبت مجازر مروعة بحق عائلات نازحة في رفح وخانيونس، من بينها عائلات المصري، الجبري، اللمداني، بريخ، وصبح، التي راح ضحيتها العشرات من النساء والأطفال، ما يدحض بشكل قاطع المزاعم الإسرائيلية بشأن "أمان الجنوب".

كما رُوّج عبر حسابات الجيش الإسرائيلي، في 24 أكتوبر 2023، لصورة قيل إنها تُظهر نصف مليون لتر من الوقود داخل معبر رفح، زاعمًا أن حماس “تخزنه بدلًا من توزيعه على المرافق المدنية”. غير أن التحقيق أظهر أن الصورة تعود لمحطتي تخزين خاصتين تقعان غرب المعبر، وأن الوقود المخزّن فيها لا يمكن الوصول إليه بسبب خطر الاستهداف الإسرائيلي، رغم كونه مدفوع الثمن مسبقًا من قبل أصحاب المحطات. 

وفي واحدة من أكثر محاولات التغطية على جرائم الحرب فجاجة، سعى أدرعي للتنصل من مسؤولية الجيش الإسرائيلي عن مجزرة المستشفى المعمداني، زاعمًا أن الانفجار نجم عن صاروخ أطلقته سرايا القدس وسقط بالخطأ. 

 لكن تقرير "مسبار" فنّد هذه الرواية، واعتبرها "هشة"، مدعّمًا تفنيده بتحليلات فنية وتوثيق ميداني يشير إلى مسؤولية إسرائيل عن القصف. 

كما زعم أدرعي أن حماس أقامت "حاجزًا" لمنع دخول شاحنات المساعدات، غير أن تحليل الصورة التي نشرها ومطابقتها بالمعالم الجغرافية أثبت أنها التُقطت من نقطة تمركز لجنود الاحتلال الإسرائيلي، لا من منطقة تسيطر عليها حماس. بل أوضح التقرير أن إسرائيل هي الجهة الفعلية التي تعيق دخول المساعدات وتستهدف سيارات الإسعاف.

أدرعي والمستشفى الأوروبي

تقاطعات الخطاب الإسرائيلي الموجَّه إلى العرب 

لا يقتصر الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الموجّه إلى الجمهور العربي على شخصية أفيخاي أدرعي، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، بل يشكّل هذا الخطاب جزءًا من منظومة دعائية متكاملة تشارك فيها شخصيات ومؤسسات رسمية متعددة، أبرزها إيلا وايتس من الجيش الإسرائيلي، ويوناتان جونين من وزارة الخارجية الإسرائيلية. ورغم اختلاف المواقع والمهام المؤسسية، إلا أن ثمة تقاطعات واضحة في مضامين الخطاب وأساليبه وأهدافه، والهدف منها إعادة إنتاج الرواية الإسرائيلية بما يخدم مصالح الاحتلال ويقوّض السردية الفلسطينية. 

تلعب إيلا وايتس دورًا محوريًا في هذه المنظومة بصفتها رئيسة مكتب الإعلام العربي في الجيش الإسرائيلي، إذ تضطلع بتنسيق المحتوى الموجّه للجمهور العربي وضبط الرسائل الإعلامية الصادرة عن المؤسسة العسكرية، لا سيما في فترات التصعيد. وتكرر في تصريحاتها وخطاباتها كثيرًا من الرسائل التي يروّج لها أفيخاي أدرعي، ما يشير إلى تكامل وظيفي بين الأدوار المختلفة في هذه المنظومة. 

أما يوناتان جونين، الذي يشغل حاليًا منصب نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في البرازيل، فقد تولّى في السابق إدارة قسم التواصل الاجتماعي باللغة العربية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ولعب دورًا أساسيًا في تطوير ما يُعرف بـ"الدبلوماسية الرقمية" الموجهة للعالم العربي. ومن موقعه هذا، أشرف على مئات الحسابات الرسمية الناطقة بالعربية، مركّزًا على فئة الشباب، ومستندًا إلى خطاب مزدوج: يُظهر من جهة صورة "إسرائيل المتقدمة والمنفتحة"، ومن جهة أخرى يسعى إلى تقويض السردية الفلسطينية عبر تحميل الفصائل الفلسطينية مسؤولية معاناة السكان في غزة والضفة. 

وخلال جولات الحرب المتكررة على قطاع غزة، انخرط جونين بشكل مباشر في رسم وتوجيه الخطاب الإسرائيلي الموجه للجمهور العربي، عبر دراسات وأبحاث داخلية هدفها تحسين أداء المتحدثين العسكريين والإعلاميين الناطقين بالعربية، وفي مقدمتهم أفيخاي أدرعي.  

اقرأ/ي أيضًا 

سرقة المساعدات في غزة: ما دور إسرائيل في ظهور ودعم ميليشيا ياسر أبو شباب؟ 

أبرز المزاعم الإسرائيلية عقب اعتراض سفينة مادلين واحتجاز نشطائها 

المصادر

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar