عامان من الإبادة على غزة: الهاسبارا وتجنيد المؤثرين لتشويه الحقائق وتبرير الجرائم
على امتداد عامين من العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تقتصر معركة الاحتلال على الجبهات العسكرية فحسب، بل امتدت إلى ساحة أخرى لا تقل خطورة وتأثيرًا واستقطابًا، لتشمل حرب الروايات في المجال الإعلامي، وخاصة الرقمي.
ساحة شن عبرها الاحتلال الإسرائيلي حملات واسعة، منسقة ومدفوعة الأجر، وضعت لنفسها أهدافًا متعددة تتجاوز مجرد تبرير الجرائم وتشويه الفلسطينيين، لتشمل إعادة تشكيل الوعي العالمي وتبييض صورة الاحتلال في محاولة لكسب تعاطف الرأي العام الدولي. لم تعتمد الحرب على الدعاية التقليدية أو "الهاسبارا" الكلاسيكية فقط، بل ارتكزت على استراتيجية متكاملة جعلت من المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي سلاحًا جديدًا في معركة التضليل.
وعلى مدى العامين، كشف مسبار وفنّد عبر تحقيقاته العديد من الحملات والادعاءات المضللة التي روج لها مؤثرون إسرائيليون وأجانب، جندهم الاحتلال كـ"جنود رقميين".
وفي المقال التالي، يعمل "مسبار" على كشف نمط ومنهجية توظيف الاحتلال للمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يمتلكون ملايين المتابعين، كأدوات لنشر وترويج حملات التضليل والعمليات النفسية والإعلامية المدروسة التي استهدفت الرأي العام الغربي على وجه الخصوص طوال عامين من العدوان.
كما يوضح أيضًا حقيقة الحملات التي تبدو فردية أو غير منسقة، والتي يشنها مؤثرون مختصون في مجالات مثل السفر أو الكوميديا أو أسلوب الحياة ويتحولون إلى ناطقين باسم الرواية الإسرائيلية، هي في الحقيقة جزء من استراتيجية دعائية منظمة يشرف عليها الاحتلال ويعيد إنتاجها باستمرار لمخاطبة الجماهير العالمية التي قد تتأثر بالرواية الفلسطينية.
المؤثرون والبروباغندا الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي
استنادًا إلى قدرتهم على الوصول إلى جماهير واسعة وبناء علاقات شخصية مع متابعيهم، لعب المؤثرون وصناع المحتوى دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام. في هذا الإطار، استغل مؤثرون إسرائيليون ودوليون مؤيدون لإسرائيل منصاتهم لدعم الروايات، التي تبرر التصعيد العسكري في غزة وتلمع صورة الاحتلال طوال عامين من العدوان، فعمل المؤثرون الذين نجح الاحتلال في تجنيدهم على استهداف الجمهور الغربي عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف التأثير فيه وإقناعه بالرواية الإسرائيلية.
واعتمد المؤثرون على أساليب متنوعة للتأثير في الجماهير المستهدفة، من بينها محاولات تشتيت الانتباه، والتشكيك في الانتقادات، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، ونشر صور ومقاطع مضللة، إلى جانب تقديم إسرائيل كـ"ضحية" تدافع عن نفسها، وتُطلق هذه الحملات غالبًا في أوقات مدروسة تتزامن مع أحداث كبرى تشتد فيها الانتقادات ضد إسرائيل، في محاولة لاحتوائها والتشويش عليها.

المؤثرون الإسرائيليون.. أداة تضليل تحت قناع السخرية والتهكم
لم تقتصر الدعاية الإسرائيلية خلال العدوان على غزة على الترويج لادعاءات سياسية أو عسكرية مباشرة، بل لجأت أيضًا إلى التخفي خلف محتوى الكوميديا والسخرية.
وفي السياق، اعتمد مؤثرون إسرائيليون تكتيك تحويل حساباتهم إلى منصات للتهكم من المعاناة الإنسانية في القطاع بأسلوب ساخر، في محاولة للتشويش على الواقع المأساوي ونزع الصفة الإنسانية عن الضحايا الفلسطينيين.
وعلى مدى عامين من العدوان، رصد مسبار عددًا من النماذج التي حوّلت المأساة الفلسطينية إلى مادة للتندر، من بينها المؤثر الإسرائيلي ماتانيل لياني، الذي نشر مع بداية الحصار الشامل على القطاع، مقطع فيديو بعنوان "هذه هي البداية". قدم فيه سخرية مباشرة من معاناة الفلسطينيين جراء انقطاع المياه والكهرباء، وحصد حينها تفاعلًا واسعًا وتعليقات مشبعة بخطاب كراهية.
وفي السياق ذاته، نشرت المؤثرة الإسرائيلية Noya Cohen مقطعًا ساخرًا تنكرت فيه كامرأة فلسطينية تعيش تحت القصف، وفي الفيديو ظهرت وهي تستخدم مواد تجميل مغطاة بالأتربة، ثم أنهته بمشهد انفجارات قدم على أنه جزء من الحياة اليومية، في محاولة لتشويه الواقع وإنكار الظروف القاسية التي يواجهها الفلسطينيون جراء الغارات الإسرائيلية.
ورصد مسبار أن هذا النمط من المحتوى شهد انتشارًا واسعًا على مواقع التواصل طوال عامين من العدوان، إذ قلد عدد كبير من المستخدمين المشهد وصوروا مقاطع مشابهة تحاكي الأوضاع المأساوية في غزة بشكل ساخر.
ورُوّج للمقاطع تحت وسوم ثابتة، أبرزها "باليوود"، الذي يوحي بأن المشاهد الإنسانية المصورة "مفتعلة" أو "تمثيلية". وتهدف هذه الحملات، التي تقودها حسابات تمتلك مئات الآلاف من المتابعين، إلى خلق حاجز نفسي لدى الجمهور الدولي يمنعه من التعاطف مع الفلسطينيين، وتمهيد لتقبّل الرواية الإسرائيلية التي تبرر الحصار والعقاب الجماعي.
"العسكرة الترفيهية" واستغلال الجندر في البروباغندا الإسرائيلية
لجأت آلة الدعاية الإسرائيلية إلى تكتيك آخر يتمثل في توظيف الجنديات كمؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يقتصر هدف هذه الاستراتيجية على ترويج الرواية الإسرائيلية، بل يمتد إلى تلميع صورة جيش الاحتلال، الذي وجهت له العديد من الاتهامات خلال عدوانه على غزة، عبر إضفاء طابع "إنساني" وجاذب على آلته العسكرية، وتحويل الجندية من أداة قمع إلى أيقونة تجمع بين القوة والجمال.
يختار الاحتلال هؤلاء "الجنديات المؤثرات" بعناية، مع تركيز متعمد على المظهر الخارجي كوسيلة لكسب التعاطف وتشتيت الانتباه عن عنف الجيش. وتُعد ناتاليا فيديف، التي يتابعها نحو مليون شخص على انستغرام، مثالًا واضحًا على هذا النهج، إذ استطاعت من خلال مظهرها دمج صورها بالزي العسكري مع رسائل مؤيدة للجيش وشعارات متناقضة مثل "اصنعوا الحب لا الحرب".
وكان مسبار قد كشف في مقال سابق أن فيديف، إلى جانب جنديات أخريات، تنتمي إلى وكالة إسرائيلية متخصصة تُدعى The Alpha Gun Angels، تأسست عام 2018 على يد محاربة سابقة في جيش الاحتلال، وتعمل الوكالة على تحويل الجنديات إلى مؤثرات محترفات، وتسويق "النموذج العسكري الإسرائيلي" في أسلوب ترفيهي مثير، يهدف إلى تطبيع النزعة العسكرية وتقديمها في قالب جمالي جذاب.

المؤثرون وإنكار التجويع
من بين أكثر حملات التضليل قسوة تلك التي استُخدم فيها المؤثرون لترويج رواية تنكر المجاعة المتفشية في قطاع غزة. فبالرغم من التقارير الأممية التي أكدت مرارًا أن سكان القطاع يواجهون خطر الموت جوعًا، انساق المؤثرون وراء رواية الاحتلال، وعملوا على نشر محتويات مضللة توهم متابعيهم بوجود "وفرة في الطعام" وأن "الحياة طبيعية" داخل غزة، في فترة شهد فيها القطاع مئات الوفيات الناتجة عن الجوع وسوء التغذية الحاد.
و اعتمد المؤثرون على نشر مقاطع وصور مجتزأة لأسواق محدودة في بعض مناطق القطاع، أو على استخدام صور قديمة لأشخاص يعانون من زيادة الوزن، بهدف التشكيك في حقيقة الأزمة الإنسانية. كما شارك مؤثرون إسرائيليون وأميركيون في جولات إعلامية نظّمتها حكومة الاحتلال لتحويلهم إلى "شهود" على وفرة مزعومة للمساعدات الإنسانية.
ورصد مسبار خلال عامي العدوان عدة أمثلة لهذا التكتيك، من بينها المؤثر الإسرائيلي ديفيد ريبيل، الذي ظهر في مقطع مصوّر بجانب أطنان من المساعدات المكدّسة قرب المعابر، زاعمًا أن الحديث عن التجويع في غزة "خدعة ضخمة تديرها حماس".
وفي مقطع مشابه، ظهرت المؤثرة الإسرائيلية شيراز شكران من معبر كرم أبو سالم وهي تستعرض أصناف المواد الغذائية، مؤكدة أنها لم تر أي دليل على المجاعة، وواصفة الأمر بأنه "افتراء"، ملقية باللوم على الأمم المتحدة في عدم توزيع المساعدات التي كانت إسرائيل نفسها تحتجزها.

المؤثرون.. أداة أساسية في "الهاسبارا"
لم يكن تحويل المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى "جنود رقميين" في حرب الروايات تطورًا عشوائيًا، بل جاء كجزء من تحديث استراتيجية الدعاية الإسرائيلية التاريخية المعروفة بـ"الهاسبارا" طوال عامين من العدوان.
فبعد أن اعتمدت هذه الدعاية على الدبلوماسيين والناطقين الرسميين، أدركت حكومة الاحتلال أن معركة الرأي العام العالمي، خصوصًا بين الأجيال الشابة، باتت تُخاض على منصات مثل تيك توك وانستغرام، ومن أجل مجاراة هذه التغيرات لجأ الاحتلال إلى المؤثرين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارهم جزءًا أساسيًا من أدوات الدعاية وأبرز وسائلها، لترويج الروايات المضللة حول غزة والتصدي للانتقادات الدولية.
ولمواكبة هذه التحولات، زاد الاحتلال إنفاقه على الجبهة الرقمية، حيث خصصت الحكومة الإسرائيلية ميزانية إضافية قدرها 150 مليون دولار للدبلوماسية العامة التابعة لوزارة الخارجية، أي بزيادة تقارب عشرين ضعفًا مقارنة بما كان قبل حرب أكتوبر 2023، وذلك في إطار ما يُعرف بأنشطة "حرب الوعي".
وتُرجمت هذه الميزانيات إلى عقود مباشرة مع مؤثرين وشركات علاقات عامة. وفي السياق، كشف موقع Responsible Statecraft أن إسرائيل جنّدت عددًا من المؤثرين لترويج رواياتها المضللة حول الوضع في غزة ومواجهة الانتقادات الموجهة لعملياتها العسكرية، مقابل مبالغ تصل إلى 7000 دولار أميركي للمنشور الواحد على مواقع مثل تيك توك وانستغرام.
تصريحات إسرائيلية رسمية تشدد على أهمية الحرب الرقمية
يعكس توظيف المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي رؤية القيادة الإسرائيلية لأهمية الحرب الرقمية في العدوان المستمر على غزة. وفي السياق، صرّح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو حديثًا، بأن إسرائيل تنظر إلى مواقع التواصل والمؤثرين بوصفهم "أسلحة استراتيجية" في معركتها لكسب الرأي العام العالمي.
وقال نتنياهو خلال اجتماعه مع عدد من المؤثرين الأميركيين الموالين لإسرائيل في القنصلية الإسرائيلية في مدينة نيويورك "علينا أن نقاتل بالأسلحة المناسبة لساحات المعركة التي نخوضها، وأهمها اليوم مواقع التواصل الاجتماعي".
وأشار أيضًا إلى أن الصفقة المحتملة لاستحواذ شركات أميركية، يدعمها رجال أعمال موالون لإسرائيل، على أنشطة منصة تيك توك في الولايات المتحدة تمثل "أهم عملية شراء جارية حاليًا".
وأضاف أن السيطرة على موقعي تيك توك وإكس، ستمنح إسرائيل نفوذًا واسعًا على مستوى الدعم السياسي والشعبي، خاصة في الولايات المتحدة.
اقرأ/ي أيضًا




















