عامان من الإبادة على غزة: حملات إسرائيلية للطعن في مشاهد الضحايا المدنيين
على امتداد عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصاعدت حملات رقمية تقودها حسابات إسرائيلية وأخرى مؤيدة لها على منصات التواصل الاجتماعي، استهدفت التشكيك في الرواية الفلسطينية وتزييف حقيقة المأساة الإنسانية في القطاع.
روّجت تلك الحملات مزاعم تزعم أن الفلسطينيين يفبركون مشاهد القتل والإصابات، وأن قصص المعاناة الإنسانية ليست سوى تمثيل أو دعاية منظّمة. وانتشرت هذه الادعاءات تحت وسوم مثل #باليوود (Pallywood) و#غزاوود (Gazawood)، مرفقة بمقاطع قديمة أو معدّلة أو مجتزأة من سياقها الأصلي، في محاولة للتشويش على الحقائق الموثقة ميدانيًا وتقويض صدقية التوثيق الفلسطيني للانتهاكات.
وخلال العامين الفائتين، تتبّع "مسبار" تلك المزاعم عبر سلسلة تحقيقات معمّقة، استندت إلى تحليل الأدلة باستخدام تقنيات المصادر المفتوحة، وإلى شهادات دحضت صحة تلك الادعاءات. وأسفرت التحقيقات عن كشفٍ منهجي لزيف الروايات التي سعت إلى طمس الحقائق وتزييف الوقائع الميدانية، نعرض لكم أبرزها في هذا المقال.
استخدام مشاهد تمثيلية لترويج مزاعم "فبركة" الفلسطينيين لموتهم وإصاباتهم
تزامنًا مع الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على القطاع، بدأت حسابات إسرائيلية وأخرى مؤيدة لها على منصات التواصل الاجتماعي بتداول مقاطع مصوّرة ومشاهد تمثيلية، زعمت أنها تُظهر فلسطينيين يفبركون موتهم أو إصاباتهم بهدف "تزييف" الحقائق حول الحرب.
واستندت تلك الحسابات إلى مقاطع مأخوذة من كواليس أعمال فنية أو مشاهد قديمة خارج سياقها الأصلي، وقدّمتها على أنها أدلة على "فبركة" الفلسطينيين لموتهم وإصابتهم.
على سبيل المثال، تداولت تلك الحسابات مقطع فيديو ادّعت أنه يُظهر فلسطينيين يستخدمون مساحيق التجميل والمواد الكيميائية لمحاكاة الجروح والدماء.
لكن التحقق الذي أجراه مسبار أثبت أن الادعاء مضلل، إذ يعود المقطع إلى عام 2017، ونُشر ضمن تقرير لقناة TRT World التركية عن أعمال خبيرة المكياج السينمائي الفلسطينية، مريم صلاح، التي كانت تعمل على تصوير فيلم محلي في غزة يجسّد المخاطر التي يواجهها سكان القطاع.
وفي مقطع آخر، نشرت حسابات إسرائيلية مشهدًا يُظهر جثثًا تتحرك داخل الأكفان، مدّعية أنه لفلسطينيين يزيفون موتهم لتشويه "صورة إسرائيل".
غير أن التحقيق أظهر أن المقطع لا علاقة له بغزة، بل يعود إلى عرض تمثيلي نفّذه طلاب جامعة الأزهر في مصر عام 2013، يجسّد مشهد فض اعتصام ميدان رابعة العدوية ضمن فعالية فنية تندد بالحادثة، آنذاك.
كما تداولت حسابات داعمة لإسرائيل مقطع فيديو، زعمت أنه يُظهر فلسطينيين يفبركون إصاباتهم داخل أحد المستشفيات في غزة. ويبدو في المقطع رجل يُدخل إلى المستشفى على نقّالة ترافقه عدسات المصورين، ثم يظهر في لقطات لاحقة وهو يتحرك دون إصابات واضحة.
وبالتحقق، تبيّن أن الفيديو لا يمتّ بصلة للحرب على غزة، إذ يعود إلى كواليس تصوير فيلم مغربي، نشره الممثل كريم دونيازل عبر حسابه في إنستغرام، بتاريخ 30 أكتوبر 2023، مع تعليق يشير إلى أنه جزء من عمل سينمائي. وقد نفى دونيازل لاحقًا أي علاقة للمشهد بفلسطين، مؤكدًا أنه من فيلم شارك فيه كممثل ومخرج.
كذلك، تداولت حسابات إسرائيلية مقطع فيديو زعمت أنه يُظهر فلسطينيين في غزة يفبركون مشاهد إصابتهم. وعلّق ناشرو الادعاء بعبارات تشكك في صدقية ما يُنشر من صور الضحايا، منها: "عندما ترى هذه المشاهد المسرحية من غزة، ستشك في كل شيء". ويُظهر الفيديو رجلًا يمزق ملابس طفل ويضع على ذراعه ضمادة ملوّثة بلون أحمر، ليبدو وكأنه ينزف.
إلا أن التحقق الذي أجراه مسبار أوضح أن الادعاء مضلل، إذ تبين أن المقطع يوثّق جلسة تصوير أُجريت في العراق عام 2022، ونشره مصور عراقي يُدعى مرتضى فلاح كامل على حسابه في تيك توك، بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، مع تعليق يقول فيه: "تردّون النتيجة".
وأوضح المصوّر لمسبار أنه التقط الفيديو في بغداد عام 2019، ضمن عمل فني لا علاقة له بفلسطين أو بالحرب على غزة.
وفي سياق مشابه، نشرت حسابات إسرائيلية أخرى، من بينها حساب أوفير جندلمان، المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مقطع فيديو يُظهر وضع مكياج لطفلة لتبدو وكأنها مصابة. وادّعى ناشرو المقطع أن المشاهد المروعة القادمة من غزة "مفبركة"، وأن الفلسطينيين يستخدمون هذه الأساليب لتضليل الرأي العام العالمي بشأن ضحايا الحرب.
أظهر التحقيق الذي أجراه مسبار أن المقطع مجتزأ من فيلم لبناني قصير بعنوان "الواقع"، صدر في 28 أكتوبر 2023، وجسّد معاناة أطفال غزة تحت القصف الإسرائيلي.
والفيلم من إنتاج مجموعة من صنّاع المحتوى اللبنانيين الذين عبّروا من خلاله عن تضامنهم مع الفلسطينيين، وتصويرهم لما يعيشه سكان القطاع، ولا سيما الأطفال، من مأساة إنسانية يومية.
كما تداولت حسابات إسرائيلية مقطع فيديو زعمت أنه يُظهر فبركة إصابة طفل فلسطيني جراء قصف إسرائيلي على قطاع غزة.
غير أن التحقق الذي أجراه مسبار كشف أن الادعاء مضلل، إذ تبين أن الفيديو مأخوذ من كواليس تصوير فيلم العهد الذي أُنتج لصالح الدفاع المدني الفلسطيني عام 2022، ونُشر على حساب المصور والمخرج الفلسطيني محمود زقوت عبر موقع تيك توك،إذ كتب على المقطع "فيلم جديد"، وأوضح في التعليقات أنه من كواليس التصوير.
وفي سياق مشابه من التضليل، نُشر مقطع آخر على أنه يُظهر فلسطينيين في غزة يفبركون إصاباتهم، بهدف استعطاف المشاعر الدولية.
لكن نتائج البحث والتحقق أظهرت أن الفيديو الأصلي يوثّق مناورة طبية تدريبية نفذتها الجامعة الإسلامية في غزة عام 2018 بمناسبة اليوم الطبي، حينها، ما يؤكد أن المقطع استُخدم خارج سياقه الحقيقي لترويج رواية مضللة ضمن الحملة الرقمية الإسرائيلية.
استغلال صور جثث الأطفال الفلسطينيين للزعم بأنها "دمى"
من بين الأساليب التي لجأت إليها الحسابات الإسرائيلية لتشويه الرواية الفلسطينية والتشكيك في حقيقة الضحايا، الادعاء بأن المشاهد التي تُظهر جثث الأطفال ليست حقيقية، وإنما لدمى مصنوعة. وقد استُخدمت هذه المزاعم لتقويض التعاطف العالمي مع ضحايا الحرب وتبرير الجرائم الإسرائيلية في غزة.
في هذا السياق، نشر إيدي كوهين على منصة إكس، مقطع فيديو زعم فيه أن ما يظهر هو دمية، وليس جثة طفل فلسطيني قُتل في الغارات الإسرائيلية على غزة.
توصّل مسبار من خلال التحقق إلى أن الادعاء مضلل، إذ تبين أن ما يظهر في المقطع هو جثة طفل فلسطيني متصلّبة جراء الوفاة، وليست دمية كما زُعم. وأكد مصوّر الفيديو لمسبار أن ما ظهر في الفيديو هو جثة طفل من جنس ذكر، وأنه من عائلة البنا القاطنة في حي الزيتون شمالي غزة.
وفي ادعاء مشابه، تداولت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعًا آخر زعمت أنه يُظهر فلسطينيًا يحمل دمية ويقدّمها على أنها جثة رضيع قُتل في القصف الإسرائيلي الذي أعقب انتهاء الهدنة المؤقتة في ديسمبر/كانون الأول 2023.
وبالتحقق، تبيّن أن الادعاء مضلل، إذ أكد مصوّر الفيديو عمر الديراوي لمسبار أن المشهد يُظهر جثة رضيع حقيقية لا يتجاوز عمره خمسة أشهر، التُقطت في مستشفى شهداء الأقصى، بتاريخ الأول من ديسمبر 2023.
وأوضح الديراوي أن الرضيع هو محمد هاني الزهار، الذي قضى مع أفراد من عائلته في قصف إسرائيلي استهدف قرية المغراقة وسط قطاع غزة، مع تجدد العدوان عقب انتهاء الهدنة، حينها.
تشكيك إسرائيلي في مشاهد إصابات الفلسطينيين
ضمن نهجٍ متواصل منذ بداية الإبادة الجماعية، دأبت الحسابات الإسرائيلية والمؤيدة لها على التشكيك في حقيقة إصابات الفلسطينيين جرّاء القصف الإسرائيلي، عبر تداول مشاهد لجرحى ومصابين، مع الادعاء بأنها مفبركة وتُستخدم لأغراض دعائية.
في هذا الإطار، نشرت حسابات على منصة إكس، من بينها حساب "GazaWood"، مشاهد تزعم فبركة إصابة الصحفية بيان أبو سلطان خلال الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مقهى الباقة في مدينة غزة، بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2025.
وأرفق الحساب مقطع فيديو يُظهر لحظة تصوير بيان بعد القصف، وعلّق عليه بسخرية قائلًا: "لست متأكدًا ما إذا كانت هذه استعداداتها للكاميرات أم اللقطة الفعلية. لا إصابات، مبتسمون، مقهى مزدحم؟ ظننت أن هذه الأشياء غير موجودة".
ردّت الصحفية بيان أبو سلطان عبر صفحتها على فيسبوك موضّحة تفاصيل اللحظات التي سبقت القصف، إذ قالت إنها كانت تقضي صباحها بشكل اعتيادي في المقهى، ولاحظت اقتراب زوارق حربية إسرائيلية من الشاطئ، ظنّ روّاد المكان أنها دوريات اعتيادية، قبل أن يفاجئهم انفجار عنيف دمّر المقهى بالكامل وأوقع مجزرة بين الجالسين.
وأكد المصوّر الصحفي حسن سالم لمسبار، الذي كان برفقتها لحظة القصف، أنها أُصيبت بشظايا متفرقة في جسدها نتيجة الانفجار.
وفيما يخص مقطع الفيديو المتداول، والذي ظهرت فيه داخل أحد المرافق الطبية، أوضح سالم أن التصوير جرى داخل قسم الإسعاف في مجمّع الشفاء الطبي، حيث طلب الطاقم الطبي من بيان تنظيف وجهها ويديها من الدماء قبل التوجه إلى قسم الأشعة، وهو ما يفسر المشاهد التي ظهرت في الفيديو واستُخدمت لاحقًا خارج سياقها للتشكيك في إصابتها.
كما تداولت حسابات مؤيدة لإسرائيل مقطع فيديو التقطه المصوّر الصحفي مصطفى أبو جاسر، يُظهر الطفلة لانا البسوس وقد علقت رصاصة في رأسها. وادّعت تلك الحسابات أن المشهد "غير مقنع"، واعتبرته "مسرحية مفبركة"، مستندة إلى ما وصفته بـ"غياب الدم" و"وضوح الرصاصة"، بل ذهبت إلى السخرية بالقول إن "جمجمة الطفلة مصنوعة من التيتانيوم"، معتبرة ذلك دليلًا على أن الواقعة مختلقة.
غير أن التحقق الذي أجراه مسبار كشف أن الادعاء زائف، إذ أوضح المصوّر مصطفى عبد الجاسر أن الإصابة حقيقية ووقعت بتاريخ 25 يوليو/تموز 2025 في منطقة تل الهوى قرب نقطة لتوزيع المساعدات في نتساريم، بينما كانت الطفلة تلهو.
وأكد أن لانا أُصيبت برصاصة مباشرة ونُقلت فورًا إلى مستشفى السرايا الميداني، حيث خضعت لعملية جراحية بسيطة لاستخراج الرصاصة من رأسها، وغادرت المستشفى في اليوم التالي بعد تحسن حالتها.
وفي ادعاء مشابه، رصد مسبار تداول حسابات إسرائيلية مقطع فيديو آخر من تصوير الناشط يوسف خضر، يُظهر طواقم طبية وهي تستخرج رصاصة من ظهر طفلة فلسطينية، مع تعليقات تزعم أن المشهد "مجرد تمثيل". واستندت هذه المزاعم إلى "غياب الدم وسلامة الرصاصة" كمؤشرات على أن الواقعة "غير حقيقية".
إلا أن التحقيق الذي أجراه مسبار أكد أن الفيديو صُوّر داخل مستشفى القدس في قطاع غزة، وأن الطفلة التي ظهرت فيه هي لينان أبو درابي، التي أُصيبت بعد استهداف قوات الاحتلال منزل عائلتها في منطقة الشيخ عجلين.
وأوضح خضر أن الطفلة وصلت إلى المستشفى بعد أن استقرت رصاصة في ظهرها. كما بيّنت الطبيبة سناء القرعان، التي أجرت عملية استخراج الرصاصة، أن الإصابة كانت خطيرة، إذ دخلت الرصاصة من جهة القلب من الخلف، ما استدعى إخراجها فورًا لتجنّب مضاعفات أو تسمم داخلي.
وفي واقعة أخرى مشابهة، نشرت حسابات إسرائيلية مقطع فيديو التقطته الصحفية سلمى القدومي يُظهر طفلة مصابة في رأسها، مدّعية أنه جزء من "حملة دعائية فلسطينية"، تهدف إلى كسب التعاطف الدولي.
لكن القدومي أوضح لمسبار أن الفيديو يوثّق حالة الطفلة صوفيا، البالغة من العمر ثماني سنوات، والتي أُصيبت جرّاء قصف الاحتلال لمنزل عائلتها في منطقة تبة النويري وسط قطاع غزة، في ديسمبر/كانون الأول 2024.
وأكد أنها أجرت مقابلات مصوّرة مع الطفلة داخل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، حيث تحدثت صوفيا عن إصابتها بشظايا في رأسها ويدها أثناء وجودها في غرفتها، مشيرة إلى أن القصف استهدف "الصالون" وأصاب عددًا من أفراد عائلتها أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا
حملة تضليل إسرائيلية للترويج بأنّ الفلسطينيين يفبركون موتهم
غزة-وود حملات إسرائيلية مستمرة للطعن بصدقية مشاهد موت الفلسطينيين



















