عامان من الإبادة على غزة: كيف استغلت إسرائيل حساباتها الرسمية لترويج روايتها؟
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تكن الحرب الإسرائيلية على غزة محصورة في الميدان العسكري فحسب، بل امتدت على نحو موازٍ إلى ميدان السرديات الدعائية، فخاضت إسرائيل واحدة من أعنف معاركها الدعائية في العصر الرقمي. وبينما كانت القنابل والصواريخ تستهدف الأرض والبشر، كانت الحسابات الرسمية الإسرائيلية على منصات التواصل الاجتماعي تستهدف الوعي عبر روايات مضادة، وصور منتقاة، وأرقام محرّفة، وادعاءات أُريد لها أن تحجب حقيقة ما يجري على الأرض.
في هذه الحرب المزدوجة، لعبت الحسابات الرسمية، مثل حساب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، وحسابات وزارات ومؤسسات رسمية أخرى، دورًا يتجاوز مجرد نقل موقف سياسي أو عسكري، لتتحول إلى أدوات فعالة في بناء سردية متكاملة تسعى إلى شرعنة العدوان، وتبرير الخسائر البشرية، وتقويض الرواية الفلسطينية على المستوى الدولي. فكان التضليل هنا جزءًا من استراتيجية مقصودة، وليس انزلاقات فردية أو اجتهادات إعلامية، ما يجعل دراسة هذه الظاهرة ضرورة لفهم آليات الهيمنة على الخطاب العام في زمن الحروب، فقد رصد مسبار عشرات الادعاءات الإسرائيلية الرسمية المضللة.
يأتي هذا التقرير بالتزامن مع الذكرى الثانية لاندلاع الحرب، ليعيد تفكيك أبرز تقنيات التضليل التي اعتمدتها الحسابات الإسرائيلية الرسمية، جامعًا بين المواد التي سبق أن فحصها "مسبار" على مدار العامين الفائتين، ومضيفًا إليها تحليلات جديدة تسلّط الضوء على أنماط أكثر منهجية.
تقنيات التضليل التي تستخدمها الحسابات الإسرائيلية الرسمية
لم يكن التضليل في رواية الحسابات الإسرائيلية الرسمية وليد المصادفة أو مجرد خطأ في النقل، بل أتى كجزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى التحكم في تدفق المعلومات وصناعة سردية موازية للأحداث. هذه الحسابات لم تكتفِ بتقديم وجهة نظر إسرائيلية، بل عمدت إلى استخدام أدوات تضليل متكررة، صيغت بمهارة إعلامية، لتبرير الانتهاكات على الأرض، وإضعاف الرواية الفلسطينية، والتأثير في الرأي العام العالمي.
تنوّعت هذه التقنيات بين تحريف المشاهد البصرية عبر اقتطاع اللقطات من سياقها أو إعادة توظيف صور قديمة، وتضليل بالأرقام من خلال المبالغة أو التقليل في الإحصاءات، والتلاعب بالسياق عبر ربط أحداث منفصلة لتشكيل انطباع زائف، إلى جانب التكرار الممنهج لنفس الرسائل في أكثر من منصة بهدف تكريسها في وعي الجمهور. كما اعتمدت على إعادة توجيه السردية بإلقاء اللوم على الضحية وتحميل الفلسطينيين مسؤولية المآسي الإنسانية، وهي تقنيات دعائية كلاسيكية أعيد إنتاجها بأسلوب رقمي سريع الانتشار.
هذا القسم يستعرض أبرز هذه الأساليب، محلّلًا أمثلة محددة وردت في منشورات الحسابات الرسمية، ومبيّنًا كيف تندرج كل تقنية ضمن مخطط أوسع لـ"حرب السرديات" في الفضاء الرقمي.
استخدام مواد مُنتقاة لإظهار أن "الحياة طبيعية" في غزة
من بين أبرز تقنيات التضليل التي لجأت إليها الحسابات الرسمية الإسرائيلية ما يمكن وصفه بـ"الانتقاء المُضلل". تقوم هذه الاستراتيجية على اختيار مقاطع وصور بعناية لإظهار مشاهد من "الحياة الطبيعية" في غزة، أو إبراز لقطات لأسواق ومطاعم مكتظة بالمواد الغذائية، بهدف إنكار الأزمة الإنسانية وتقديم صورة زائفة عن استقرار اقتصادي وحياتي مزعوم، رغم التقارير الدولية التي تؤكد العكس.
ففي 28 يوليو/تموز 2025، نشر حساب إسرائيل بالعربية على منصة إكس، مقطعي فيديو يُظهران أسواقًا مكتظة بالخضروات والفواكه، مرفقَين بتعليق "أين المجاعة التي تتحدث عنها حماس والأمم المتحدة؟". اعتمد الحساب على مشاهد استثنائية من وفرة مؤقتة، وقدمها باعتبارها الصورة العامة للوضع المعيشي في القطاع، متجاهلًا تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التي أشارت إلى نقص حاد في المواد الغذائية، وارتفاع غير مسبوق في الأسعار، والمعاناة اليومية التي يواجهها السكان في الحصول على هذه السلع الأساسية.
ولم تتوقف الاستراتيجية عند هذا الحد، إذ رصد "مسبار" حملة رقمية واسعة بين 21 و25 أغسطس/آب 2025، شاركت فيها حسابات رسمية متعددة، بدءًا من وزارة الخارجية الإسرائيلية وحساب إسرائيل بالعربية، وصولًا إلى حسابات سفارات إسرائيل في دول مختلفة مثل فرنسا وإسبانيا وإثيوبيا والأرجنتين. اعتمدت الحملة على مقطع واحد مكوَّن من لقطات مجمعة من مطاعم في قطاع غزة، جُمعت بشكل انتقائي من حسابات هذه المطاعم على شبكات التواصل الاجتماعي، ثم أُعيد نشرها وترجمتها إلى أكثر من عشر لغات، بينها العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وقدمت هذه المشاهد باعتبارها "دليلًا على ازدهار المشهد الغذائي في غزة"، مع التأكيد المتكرر على عبارة "هناك طعام في غزة".
لكن عند التحقق، تبيّن أن هذه المقاطع لا تعكس الواقع الميداني. فهي لقطات محدودة من مطاعم ما تزال تعمل جزئيًا في ظل الحرب، وقد نشرها فلسطينيون عاملون في هذه المطاعم كجزء من نشاطهم التجاري. غير أن الحملة الإسرائيلية انتزعتها من سياقها الأصلي، لتوظيفها في خطاب دعائي ينكر سياسة التجويع، ويتجاهل السياق الأوسع المتمثل في الحصار والدمار، والتقارير الأممية التي وثقت مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي والمجاعة في القطاع.
ولم تقتصر هذه الحملة على الحسابات الرسمية الإسرائيلية فحسب، بل امتد صداها إلى شبكات أوسع من الحسابات الاجتماعية الإسرائيلية والغربية المساندة للاحتلال، والتي أعادت الترويج لمقاطع "الحياة الطبيعية" في غزة، عبر مئات الحسابات على منصات مختلفة، ولا سيما على موقع إكس. ومن بين أبرز هذه الحسابات، برز حساب "غزة وود" الذي تبنّى خطابًا دعائيًا متسقًا مع الرواية الرسمية، من خلال إعادة نشر المواد المنتقاة ذاتها وتسويقها للجمهور الغربي والعربي على حد سواء. وبذلك تحولت المقاطع المنتقاة إلى أداة دعائية مُضاعفة التأثير، تعكس مدى التنسيق بين المنصات الرسمية وشبكات الدعم غير الرسمية في صناعة صورة زائفة عن واقع غزة.
تكشف هذه التقنية كيف تُوظّف "صور انتقائية" لإخفاء صورة الأزمة، عبر التركيز على مشاهد استثنائية لحياة طبيعية أو نشاط اقتصادي محدود، لتقديم رواية مضادة تُسوِّق للوفرة في وقت يشهد فيه القطاع واحدة من أشد الأزمات الإنسانية قسوة في تاريخه.
إخراج المشاهد من سياقها لإنكار مأساة سكان غزة
تُعد إعادة نشر الصور أو المقاطع المصورة خارج سياقها الأصلي واحدة من أكثر أدوات التضليل التي تلجأ إليها الحسابات الإسرائيلية الرسمية. تقوم هذه التقنية على اقتطاع المشهد من زمانه أو مكانه، وفي بعض الحالات يتم صناعة مشاهد تضليلية مقصودة، ثم إعادة تقديمها وكأنها تعكس حدثًا آنيًا أو متعلقًا بالحرب على غزة، بما يخدم السردية الرسمية. وبذلك، تتحول صورة أو فيديو قديم، أو حتى مشهد من بلد آخر، إلى "دليل" مزعوم يدعم الرواية الإسرائيلية.
ففي الثالث من سبتمبر/أيلول الفائت، نشر حساب إسرائيل بالعربية على منصة إكس، مقطع فيديو يُظهر كواليس تصوير مشهد لفتاة صغيرة تحمل أواني طعام فارغة وسط مؤثرات انفجارية، وأرفقه بالتعليق "صناعة مشاهد الجوع صناعة مزدهرة في غزة فوق الأرض بإخراج حماسوود. مهما طال حبل الكذب فهو قصير". إلا أن المقطع في حقيقته ليس من غزة، بل هو عمل فني لصانع المحتوى السعودي فواز الزهراني، كان قد نشره عبر حسابه على "انستغرام" بتاريخ 23 يوليو/تموز مرفقًا بوسوم مثل: غزة، الجوع، أمريكا، تصميمي، تصويري، أفلام.
بعد يومين، عاد الزهراني ونشر نسخة معدّلة من المشهد بعد دمجها مع لقطات حقيقية توثّق محاولات أطفال في غزة الحصول على الطعام من إحدى التكايا الخيرية. وقد بيّنت مراجعة "مسبار" أن الزهراني نشر لاحقًا عدة مقاطع تضامنية مع فلسطين، ما ينفي الاستخدام الذي قدّمته الحسابات الإسرائيلية لمقطع فني على أنه "دليل" على فبركة مشاهد الجوع في القطاع.
وفي مثال آخر، نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي في 14 ديسمبر/كانون الأول 2023 مقاطع فيديو زعم أنها توثّق "استسلام أكثر من 70 ناشطًا حمساويًا مع أسلحتهم لقوات الجيش الإسرائيلي والشاباك في محيط مستشفى كمال عدوان". وأضاف أن الجيش عثر على مبنى استخدمته "عناصر حمساوية" واحتوى على وسائل قتالية. لكن تحقّق مسبار كشف أن هذا الادعاء مضلل، إذ أظهرت المشاهد في الحقيقة مدنيين وأطباء كانوا متواجدين في مستشفى كمال عدوان في مدينة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، خلال التوغل البري الإسرائيلي، وليس لمقاتلين سلّموا أنفسهم كما روّج أدرعي.
تُبرز هذه الأمثلة كيف تُستغّل مشاهد خارج سياقها الأصلي لتثبيت سردية دعائية، عبر تحويل أعمال فنية أو لقطات لمدنيين في المستشفيات إلى "أدلة" مزعومة تبرر خطاب الاحتلال، وتشكك في حقيقة المعاناة الإنسانية أو تبرر استهداف المراكز المدنية.
روايات بديلة بعد استهداف المستشفيات والمدارس والصحفيين في غزة
من بين أكثر لحظات الحرب حساسية وتأثيرًا على الرأي العام العالمي تلك التي تتعلق باستهداف المستشفيات أو الصحفيين أو المدارس، إذ تُثير هذه الحوادث موجة واسعة من الإدانات والضغط الدولي على إسرائيل. في مواجهة ذلك، تلجأ الحسابات الرسمية الإسرائيلية إلى ترويج روايات بديلة ومناقضة، تهدف إما إلى نفي المسؤولية المباشرة، أو إلى تحميل الطرف الفلسطيني المسؤولية، أو على الأقل التشويش على الرأي العام عبر طرح "روايات متعددة" تصعّب عملية التحقق.
أحد أبرز الأمثلة تمثّل في قصف مستشفى المعمداني في غزة بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذي أسفر عن مئات الضحايا والجرحى. في الساعات الأولى عقب الهجوم، نشرت الحسابات الرسمية الإسرائيلية، مثل حساب الجيش الرسمي وحساب إسرائيل بالعربية، والناطق باسم الجيش، ادعاءات متناقضة: إذ حمّلت بدايةً حركة الجهاد الإسلامي المسؤولية مدعية أن "صاروخًا فاشلًا" سقط داخل المستشفى، قبل أن تنتقل لاحقًا إلى روايات أخرى تزعم أن الانفجار وقع في ساحة السيارات نتيجة تخزين أسلحة، متجاهلة الأدلة الميدانية وشهادات المنظمات الدولية التي أكدت استهداف المستشفى بشكل مباشر.
في 10 سبتمبر/أيلول 2024، نشر الناطق باسم جيش الاحتلال عبر صفحته العربية بيانًا، زعم فيه أن قواته شنت هجومًا دقيقًا استهدف "ناشطين بارزين" في حركة حماس، باستخدام ذخائر دقيقة أدت إلى إصابات محددة، وأنه اتخذ تدابير لسماح المدنيين بالابتعاد عن مناطق القتال، بما في ذلك تحديد "منطقة إنسانية". في سياق البيان شكك المتحدث في الروايات الرسمية الصادرة عن جهات غزة بشأن أعداد الضحايا في غارة المواصي غرب خانيونس، وادّعى وجود تناقض بين إحصاءات وزارة الصحة والمكتب الإعلامي الحكومي حول أرقام الضحايا.
تحقّق مراسل "مسبار" من موقع الغارة في منطقة المواصي، وجمع إفادات شهود عيان، واطّلع على سجلات المستشفيات. وبناء على المعاينة الميدانية وإفادات السكان المحليين، بيّن التحقيق أن الغارة استهدفت مكانًا مكتظًا بالمدنيين، وأن أعداد الضحايا أكبر مما حاولت الرواية الرسمية تقليصه أو تشويشه. وقد أودت الغارة، وفق بيان وزارة الصحة الفلسطينية، بحياة 19 شخصًا عرف أسماء 11 منهم لدى وصولهم إلى مجمع ناصر الطبي، من بينهم شيماء الشاعر، وأحمد ويوسف فتحي فوجو، وندى ودعاء فوجو، وآخرون، بينما أصيب نحو 60 شخصًا آخرين. توثيق الأسماء والوفيات يؤكد أن الضحايا كانوا مدنيين معروفين بأسمائهم وبياناتهم، وهو ما يتعارض مع ادعاءات الرواية التي حاولت تصنيف الحدث كمواجهة مع "عناصر مسلحة".

وبالتوازي مع حادثة المواصي، شهد مجمع ناصر الطبي في خانيونس هجومين متتالين أثارا جدلًا واسعًا. ففي 25 أغسطس/آب 2025 قُصِف الطابق العلوي من المجمع بينما كان يعمل فيه مصور وكالة رويترز حسام المصري، ففقد حياته بينما كان يبث مباشرة. وبعد دقائق عاودت الطائرات استهداف الموقع ذاته، ما أدى إلى سقوط مزيد من الضحايا بين مسعفين وصحفيين هرعوا لإخلاء الجرحى، وقد قُتل في تلك السلسلة من الضربات ما لا يقل عن 22 مدنيًا من بينهم خمسة صحفيين يعملون مع مؤسسات دولية، إضافة إلى طبيب وأفراد من الدفاع المدني.
عقب قصف مجمع ناصر الطبي اعترفت إسرائيل بمسؤوليتها جزئيًا وأعربت عن "أسفها" لسقوط ضحايا من "غير المتورطين"، ووصف رئيس الوزراء الحادث بأنه "مأساوي" وتعهد بإجراء تحقيق. لكن تصريحات الجيش وبيانات وزارة الخارجية ترفقها عادة روايات مواربة: النفي المباشر للاستهداف المقصود للصحفيين، وادعاءات بأن الموقع كان مستخدمًا لأغراض عسكرية أو أنه تزامن وجود المدنيين مع عملية مشروعة.
في الوقت نفسه، رصد "مسبار" سلوكًا مغايرًا في شبكات حسابات داعمة لإسرائيل، إذ لم تكتفِ بالحديث عن "خطأ" أو "خسائر جانبية" بل شرعت في حملات تبريرية مُضافة: وصم بعض الضحايا بالإرهاب، وتلفيق تهم أو نسب نشاط عسكري لهم، بهدف إضفاء شرعية لاحقة على القتل. هذا التناقض بين لغة الندم الرسمية وسلوك شبكات التبرير يكشف عن استراتيجية مزدوجة الاعتراف الجزئي ظاهريًا، وتقديم روايات مساندة تُخفّف العبء السياسي والقانوني.
في اليوم التالي لقتل الصحفيين والكوادر الطبية، نشر الجيش الإسرائيلي بيانًا أشار إلى نتائج تحقيق أولي زعمه عرضها على رئيس الأركان، بحسب البيان، رصدت قوات لواء "غولاني" كاميرا موضوعة بواسطة عناصر من حماس بالقرب من مستشفى ناصر، وزعمت أن الكاميرا استُخدمت لمراقبة تحركات الجيش وتوجيه الهجمات، وأن استهداف الموقع كان يهدف إلى "تعطيل الكاميرا". وأعلنت أن ستة من القتلى كانوا "إرهابيين"، من بينهم من شاركوا في عمليات سابقة. هذه الرواية الرسمية اصطدمت بسرعة بمعطيات ميدانية وشهادات موثّقة: رصد المرصد الأورومتوسطي طائرة إسرائيلية مسيّرة تحلّق على ارتفاع منخفض فوق مجمع ناصر قبل الضربة مباشرة، وشهادات عيان وأدلة تصويرية أظهرت أن القصف طال مبنى طبيًا مكتظًا. ورغم قدرة الجيش على نشر لقطات استخباراتية تثبت مزاعمه، لم يصدر عن الجهات الرسمية إظهار واضح لدليل بصري أو تقني يدعم رواياتها عن وجود كاميرا مراقبة، أو عن وجود عوامل مسلحة داخل المجمع في لحظة الاستهداف.
تُظهر هذه الحوادث نموذجًا متكرّرًا لاستراتيجية دعائية إسرائيلية تعتمد على ترويض السرد فور وقوع حادث عالي الأثر: إصدار بيان رسمي يقدّم تفسيرًا أوليًا يميل إلى تبرير أو تقييد المسؤولية، فيما تعمل شبكة موازية من الحسابات الداعمة على تضخيم رواية بديلة تمجّد القرار العسكري أو تلفق تهمًا للضحايا، النتيجة العملية أنها تُشتت الانتباه عن الأدلة الميدانية، وتُضعف الضغط الدولي عبر خلق شكوك مصطنعة حول هوية الضحايا وملابسات القصف.
التضليل الإسرائيلي عبر التهويل أو التقليل من الأرقام
يُعد التلاعب بالأرقام من أبرز أدوات الدعاية الإسرائيلية خلال الحرب على غزة، إذ يُمارس بعدة اتجاهات، إمّا عبر التقليل من عدد الضحايا المدنيين بهدف نفي وقوع مجازر، أو بالتهويل في تقدير خسائر المقاومة لتصوير الأمر وكأنه "إنجاز عسكري كبير"، أو من خلال الترويج لأرقام ضخمة حول إدخال المساعدات الإنسانية والدوائية إلى القطاع في محاولة لتصوير الاحتلال على أنه يقوم بواجبه الإنساني.
هذه الاستراتيجية لا تقتصر على التلاعب الإعلامي وحسب، بل تشكل جزءًا من البروباغندا الموجهة للجمهور الدولي، والهادفة إلى التشكيك في صدقية الأرقام الفلسطينية الرسمية والتقارير الحقوقية المستقلة.
في هذا السياق، ادّعت صفحة "إسرائيل تتكلم بالعربية" التابعة للحكومة الإسرائيلية، أن هناك تدفقًا واسعًا للدواء والمساعدات الطبية إلى قطاع غزة، مؤكدة أن إسرائيل لا تمنع دخول المعدات الطبية أو الفرق الصحية، بل تسهّل وصولها بحسب زعمهم. وأضافت الصفحة في منشورها "في الآونة الأخيرة، دخلت آلاف الأطنان من المعدات الطبية إلى غزة، كما أن وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق على تواصل يومي مع المنظمات الدولية لضمان تلبية احتياجات المستشفيات".
على النقيض من ذلك، أكدت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، في بيان مصور للقائم بأعمال مدير عام الصيدلة، الدكتور زكريا أبو قمر، يوم 25 سبتمبر 2025، أن مستوى توفر الأدوية والمستهلكات الطبية وصل إلى معدلات غير مسبوقة، ما يعيق جميع الخدمات العلاجية المقدمة لسكان القطاع. وحذر أبو قمر من استمرار العجز في كافة أقسام الرعاية الصحية، خاصة في قسم الطوارئ، الذي بلغت نسبة العجز فيه 54%، ما يعرض حياة المرضى والمصابين لخطر الموت المباشر.
ومن داخل مجمع ناصر الطبي، أفاد مراسل مسبار بأن العديد من المستلزمات الطبية الأساسية مثل القطن، والمحاليل، والغرز الطبية، والمواد المخدرة غير متوفرة في أقسام الاستقبال والطوارئ، ما اضطر الأطباء أحيانًا إلى بتر الأطراف المصابة بسبب عدم توفر المضادات الحيوية. كما أكد منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، في مداخلة مع قناة الجزيرة يوم 13 سبتمبر، أن نقص الأدوية الأساسية يضع الأطباء أمام خيارات قاسية، وأن الوضع الصحي يزداد خطورة يومًا بعد يوم، مع نفاد المستلزمات، ما يهدد حياة مئات المرضى، خصوصًا الأطفال وكبار السن وجرحى العدوان، إذا لم يُسمح بدخول الأدوية والمساعدات بشكل عاجل.

من خلال هذه السرديات، تتضح أهمية التحقق المستقل وضرورة الاعتماد على مصادر موثوقة وميدانية، إذ يبرز التلاعب بالأرقام كأداة قوية لتشويه الحقيقة، والتحكم في الرواية الإعلامية، وتقويض المساءلة الدولية.
إسرائيل تخاطب الجمهور الفلسطيني بالعربية
من بين أكثر الأساليب الدقيقة التي لجأت إليها الحسابات الرسمية الإسرائيلية خلال الحرب على غزة، هو مخاطبة الجمهور الفلسطيني بلغة قريبة من ثقافته اليومية، وبأسلوب يبدو ودودًا و"محايدًا"، لكسب مصداقية مؤقتة قبل تمرير رسائل دعائية أو التضليل. تعتمد هذه الطريقة على استخدام اللغة العربية، الاستشهاد بالمصطلحات المحلية، الإشارة إلى مشكلات يومية، أو إظهار تفهّم للمشقة الإنسانية، مع إخفاء الهدف الحقيقي المتمثل في التأثير النفسي أو تشكيل الرأي العام وفق سردية الاحتلال.
مثال بارز على ذلك، دأب حساب إسرائيل بالعربية، ومختلف الصفحات التابعة للحكومة الإسرائيلية، على نشر محتوى يركز على الصور اليومية للحياة في غزة، مع عبارات مثل "نعلم أن هناك تحديات كبيرة تواجه السكان، ونعمل على تسهيل وصول المساعدات". هذه اللغة تعطي انطباعًا بأن المحتوى يقدّم معلومات "حيادية" ويهتم بمصلحة الفلسطينيين، بينما يهدف في الواقع إلى تسطيح الأزمة وإقناع الجمهور بأن الوضع تحت السيطرة، متجاهلًا النقص الحاد في الغذاء، الدواء، والمستلزمات الأساسية.
يبرز هذا الأسلوب بشكل واضح أيضًا في المنشورات التي تحاول تمرير رسائل سياسية ضمن إطار أخلاقي، مثل الدعوة المبطنة إلى التعاون مع الاحتلال، أو التشكيك في الرواية الفلسطينية الرسمية حول الخسائر المدنية، عبر تقديمها بأسلوب "موضوعي" أو "محايد". وبهذه الطريقة، تستهدف الحسابات الرسمية التأثير على جمهور قطاع غزة مباشرة، وكسب ثقته مؤقتًا قبل تمرير مضامين دعائية أكثر صراحة.
ومن أبرز هذه الأساليب، خطاب المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، الذي يوجه رسائله باللغة العربية عبر منصات التواصل الاجتماعي، مستهدفًا الجمهور الفلسطيني بشكل مباشر.
أدرعي يعتمد على خطاب يمزج بين التحريض والتبرير والموعظة الدينية، بهدف إحداث انقلاب سردي جذري. يسعى من خلال ذلك إلى تحويل الاحتلال من قوة مدمّرة إلى طرف عقلاني، وتحميل الضحية مسؤولية العنف والمعاناة. على سبيل المثال، وفي إطار الحرب النفسية والإعلامية، يواصل أدرعي، استخدام الدين وتحديدًا النصوص والرموز الإسلامية في خطابه الدعائي الموجه للجمهور العربي، وخاصة خلال المناسبات الدينية مثل رمضان وعيد الفطر. ويهدف هذا الخطاب إلى أمرين متوازيين: شيطنة الفصائل الفلسطينية والمقاومة من جهة، وتقديم إسرائيل كطرف متسامح ومحب للسلام من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، نشر منشورًا في 29 مارس/آذار الفائت، بمناسبة عيد الفطر، يبدأ فيه خطابه بتهنئة تقليدية موجهة إلى "الشعوب المحبة للسلام"، لكنه سرعان ما ينقلب إلى خطاب إقصائي، إذ يقول "أما للمنظمات الإرهابية كحماس، وحزب الله، والحوثيين، فلا عيد لهم.. لأن من اختار طريق الدم لا يعرف طعم الفرح".
هذا التمييز بين "المسلمين المسالمين" و"الإرهابيين المحرومين من العيد"، يُوظَّف لتسويق صورة إسرائيل كقوة عقلانية تواجه "جماعات ظلامية"، في محاولة لتقويض التعاطف الشعبي العربي مع قوى المقاومة، واستبداله بنفور ديني أخلاقي.
من خلال هذه الأساليب، يسعى الاحتلال إلى تقويض الرواية الفلسطينية، وتحويل الضحية إلى الجاني، ما يساهم في تشويه الحقائق وتضليل الرأي العام.
التحليل الشبكي: من يعيد النشر؟
أحد أهم عناصر فهم تأثير التضليل الإعلامي يكمن في التحليل الشبكي لنشر المحتوى الإسرائيلي، فالحملات الدعائية الرسمية لا تقتصر على الحسابات الرسمية نفسها، بل تتوزع عبر شبكة واسعة من الحسابات التي تعيد نشر المحتوى، ما يضاعف تأثير الرسائل ويجعلها أكثر وصولًا وتأثيرًا على الرأي العام المحلي والدولي.
تشير المراجعات العامة التي أجراها "مسبار" إلى أن الحسابات الرسمية مثل صفحة "إسرائيل بالعربية"، والناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، تمثل نقطة الانطلاق الأساسية للمحتوى المضلل في معظم الأوقات، بينما تلعب حسابات داعمة على مواقع التواصل الاجتماعي، دور المضاعف أو المرسل المعاد. هذه الحسابات تشمل: صحفيون داعمون لإسرائيل ينشرون أو يترجمون المنشورات إلى لغات متعددة، مما يوسّع جمهور الرسائل خارج فلسطين وإسرائيل. وكذلك حسابات مؤيدة على المستوى الدولي، تساهم في إعطاء المحتوى مصداقية زائفة عبر إعادة النشر أو مشاركة التحليلات الملتوية. بالإضافة إلى حسابات متخصصة في غزة أو الشرق الأوسط تركز على المواضيع اليومية، مثل الغذاء أو الحياة المدنية، لتضليل المتابعين المحليين عبر تقديم صورة "مطابقة للواقع" بينما يتم انتقاء المشاهد بعناية.
اقرأ/ي أيضًا
عامان من الإبادة على غزة: كيف واصلت إسرائيل سياسة إنكار تجويع المدنيين؟
عامان من الإبادة على غزة: الهاسبارا وتجنيد المؤثرين لتشويه الحقائق وتبرير الجرائم





















