صحة

التضليل في الصحة الإنجابية.. كيف يحد من معرفة النساء بأجسادهن؟

فاطمة عمرانيفاطمة عمراني
date
11 أكتوبر 2025
آخر تعديل
date
11:07 ص
12 أكتوبر 2025
التضليل في الصحة الإنجابية.. كيف يحد من معرفة النساء بأجسادهن؟
تتجذر أزمة التضليل في تفاعل معقد بين التكنولوجيا والمجتمع | مسبار

خلال سنوات قليلة، تحولت المنصات الرقمية من مصدر للترفيه والتفاعل الاجتماعي إلى المرجع الأول لملايين النساء في ما يتعلق بالصحة الإنجابية. لكن خلف هذا الاعتماد السهل، تتشكل أزمة أكثر تعقيدًا: تضليل ناعم يتسلل عبر النصائح والمقاطع القصيرة، فيبدو علميًّا في ظاهره، لكنه يحمل في جوهره خرافات وأساطير قد تضر بالجسد والعقل معًا.

دراسة حديثة أجرتها منصة Clue المتخصصة في تعقب الدورة الشهرية والخصوبة، كشفت أن 82% من النساء يقلقن بشأن المعلومات الطبية المضللة على الإنترنت. هذا الرقم لا يُظهر حجم انتشار المعلومات الخاطئة فحسب، بل يضيء على التحوّل في الطريقة التي نتعلم بها عن أجسادنا من غرف الصف والمراكز الطبية إلى هواتفنا المحمولة. فحين يصبح المحتوى السريع بديلًا عن التثقيف العلمي، يتراجع العلم خطوة أمام الجاذبية البصرية والخطاب العاطفي.

في العالم العربي، تتخذ هذه الأزمة طابعًا أكثر تعقيدًا، فغياب التربية الجنسية الشاملة في المناهج، إلى جانب التصورات الاجتماعية والثقافية التي غالبًا ما تجعل الحديث عن الجسد أمرًا حساسًا، يخلق فراغًا معرفيًا يُملَأ بالخرافات ومقاطع "الخبراء" غير المختصين. ومع كل مشاركة أو إعجاب، يُعاد تدوير التضليل في دائرة مفرغة، ما يجعل المعلومة الصحيحة أقل انتشارًا.

ما يحدث اليوم لا يتعلق بانتشار الجهل فحسب، بل بتحوّل المعرفة إلى محتوى قابل للقياس بعدد المشاهدات، لا بدرجة الدقة. وهذا التحول يجعل التصدي للتضليل في الصحة الإنجابية تحديًّا يتجاوز الطب والإعلام، ليصل إلى جوهر حق النساء في فهم أجسادهن والمعرفة الدقيقة بها.

تأثير التضليل على معرفة النساء بأجسادهن

يمتد تأثير التضليل إلى أساسيات فهم الجسد. وفقًا لاستبيان أجرته منصة Clue على عينة من السيدات الأميركيات. تقول واحدة من كل اثنتين من النساء إنها صادفت معلومات عن الصحة الإنجابية على الإنترنت لم تثق بها، فيما أفادت 40% بأنهن شعرن بالارتباك و37% بالقلق بعد مواجهة محتوى متضارب. ويبدو أثر هذا التضليل واضحًا في معرفة النساء بدورة أجسادهن: 28% لا يعرفن متى تكون فترة الخصوبة الأعلى، و58% لا يستطعن تسمية المراحل الأربع للدورة الشهرية، بينما تعتقد واحدة من كل خمس نساء أن الحمل مستحيل أثناء الحيض.

على الصعيد العملي، أدى هذا إلى إهمال أكثر من ثلث النساء لمخاوف صحية، مثل اضطرابات الدورة، إذ اعتبرنها "طبيعية" بناء على نصائح غير مدعومة، ليتبين لاحقًا أنها تحتاج تدخلًا طبيًا فوريًا.

هذا الارتباك المعرفي يمتد حتى إلى فئة المراهقات. فقد أظهرت دراسة منشورة في مجلة طب الأطفال والمراهقين، إلى أن أكثر من ثلثي الفتيات والمراهقات الأميركيات يفضلن انقطاع الدورة الشهرية تمامًا إذا كان ذلك آمنًا، لكن نحو 64% منهن يعتقدن، أو لسن متأكدات، من أن وقف النزيف بالأدوية قد يكون غير آمن، ما يعكس التباسًا واسعًا بين المعرفة الطبية الدقيقة والمفاهيم الموروثة حول "الطبيعي" في الجسد الأنثوي.

جذور التضليل: عوامل رقمية وتثقيفية

تتجذر أزمة التضليل في تفاعل معقد بين التكنولوجيا والمجتمع. على الصعيد الرقمي، تعزز الخوارزميات في منصات مثل تيك توك ويوتيوب، المحتوى العاطفي والمثير على حساب الدقيق، ما يدفع المعلومات المضللة إلى الأعلى.

دراسة نشرت في Journal of Medical Internet Research وجدت أن مقاطع الفيديو المتعلقة بالإجهاض على يوتيوب تحتوي على نسب متفاوتة من الدقة، حيث سجّلت الفيديوهات المناهضة للإجهاض أعلى مستويات التضليل، عبر نشر معلومات طبية خاطئة وتحريفات، بينما كانت الفيديوهات المؤيدة لحق الإجهاض الأقل تضليلًا. وتشير الدراسة إلى أن غياب معايير الموثوقية الطبية في هذه المنصات يسهّل انتشار محتوى غير علمي، ما يؤثر على فهم الجمهور لقضايا الصحة الإنجابية.

أيضًا دراسة نُشرت في مجلة Patient Education and Counseling أشارت إلى أن نقص التثقيف الطبي حول الصحة الإنجابية يساهم في ترسيخ المفاهيم الخاطئة حتى بين المختصين أنفسهم، إذ أظهرت أن نحو 30% من مقدّمي الرعاية الصحية لديهم تصوّرات مغلوطة حول سلامة اللولب داخل الرحم للنساء اللواتي لم يُنجِبن بعد. وهذا النقص في المعرفة لا يقتصر على الجمهور العام، بل يمتد إلى النظام التعليمي الطبي ذاته، ما يعزز انتشار المعلومات غير الدقيقة حول وسائل منع الحمل واستخدامها الآمن.

آثار طبية، نفسية، وحقوقية

يتجاوز التضليل في الصحة الإنجابية الحدود المعرفية ليؤثر مباشرة على الجسد والمجتمع. طبيًا، يؤدي إلى تأخر تشخيص أمراض مثل متلازمة تكيس المبايض (PCOS) أو الانتباذ البطاني الرحمي، حيث تفسر النساء الأعراض، مثل الآلام الشديدة أو النزيف غير المنتظم كـ"طبيعية"، بناءً على محتوى رقمي، ما يفاقم الألم ويقلل فرص الخصوبة في الحالات المتقدمة، وفقًا لدراسات أجرتها منصة Flo Health المتخصصة في تعقب الدورة الشهرية والخصوبة.

نفسيًا، يؤدي التعرض المتكرر للمعلومات المضللة حول الصحة الإنجابية إلى شعور بالارتباك والقلق، خصوصًا بين الشابات اللواتي يعتمدن على الإنترنت كمصدر رئيسي للمعلومات. هذا التضليل يمكن أن يزيد من الشكوك حول الإجراءات الطبية والوسائل الإنجابية، ويؤثر على ثقة النساء بأنفسهن وبمقدمي الرعاية الصحية، ما يجعل اتخاذ قرارات سليمة بشأن صحتهن الإنجابية أكثر صعوبة. وفي البيئات الاجتماعية المحافظة، يضاعف القلق النفسي من شعور النساء بالتردد أو الخوف من طلب الاستشارة الطبية، ما يتركهن أكثر اعتمادًا على معلومات غير دقيقة أو غير موثوقة.

وفي السياق، يمثل التضليل في الصحة الإنجابية انتهاكًا غير مباشر لحقوق النساء في المعرفة واتخاذ القرارات المستنيرة بشأن أجسادهن وحياتهن الإنجابية. يقيّد نقص المعلومات الدقيقة قدرة النساء على فهم خياراتهن الطبية والوسائل الآمنة لمنع الحمل، ويزيد من اعتمادهن على مصادر رقمية أو تقليدية غير موثوقة. بالتالي، هذا يحدّ من حقهن في الوصول إلى الرعاية الصحية المناسبة. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي التضليل إلى تعزيز ممارسات تمييزية أو اجتماعية تحجب الحقوق القانونية للنساء، مثل الحق في الاستشارة الطبية، الحق في حماية الخصوبة، والحق في التخطيط الأسري. باختصار، كل خطأ أو تحريف معلوماتي لا يضر فقط بالصحة البدنية والنفسية، بل يضعف أيضًا إطار الحماية القانونية والاجتماعية الذي يضمن للنساء القدرة على العيش بحرية وكرامة.

غياب التربية الجنسية يترك النساء العربيات بلا معرفة إنجابية سليمة

في العالم العربي، تتجذر أزمة التضليل في الصحة الإنجابية في مزيج من الفراغ التعليمي والضغوط الثقافية والاجتماعية. غياب التربية الجنسية الرسمية في المدارس يترك الشابات والنساء بلا معرفة أساسية حول أجسادهن، الدورة الشهرية، ووسائل منع الحمل، بينما يهيمن خطاب اجتماعي وثقافي يعتبر الجسد والإنجاب "عيبًا" أو موضوعًا محظورًا. 

دراسة حديثة شملت 491 امرأة لبنانية غير متزوجة، وجدت أن أقل من 9% يمتلكن معرفة كافية عن الصحة الإنجابية، فيما لا يتجاوز عدد اللواتي يعرفن معلومات صحيحة حول وسائل منع الحمل 13.5%، نتيجة الفراغ التعليمي والوصمة الاجتماعية.

هذا النقص لا يترك الفرصة لتصحيح المفاهيم المغلوطة، فتنتشر الخرافات الشعبية والمعلومات غير الدقيقة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ما يزيد من الاعتماد على مصادر غير موثوقة.

النتيجة هي حلقة متكررة من التضليل والتردد في اتخاذ قرارات صحية سليمة. حتى النساء اللاتي يمتلكن معرفة جزئية، يقيدهن الخوف من الحكم الاجتماعي من استخدام وسائل منع الحمل أو طلب الرعاية الطبية، فيصبح اتخاذ القرارات حول الجسد والإنجاب مسألة محفوفة بالمخاطر النفسية والاجتماعية.

هذا الواقع يعمّق التفاوت بين ما يعرفه العالم الغربي عن أجساد النساء وما تصل إليه النساء في المنطقة العربية، حيث يزيد احتمال الحمل غير المرغوب فيه، تأخر الوصول إلى الرعاية الصحية، والضغط النفسي المستمر، بما في ذلك القلق المزمن والإحساس بالعجز أمام الخيارات الصحية.

ربط هذا الواقع بما كشفت عنه الدراسات العالمية، مثل استبيان Clue حول النساء الأميركيات، يظهر أن نقص المعرفة وعدم القدرة على التمييز بين المعلومات الموثوقة والمضللة ليس مشكلة محلية فقط، بل ظاهرة عالمية، إلا أن البنية الاجتماعية والثقافية في العالم العربي تضاعف حدتها، فتصبح النساء أكثر عرضة للعواقب الصحية والاجتماعية والنفسية المترتبة على التضليل في الصحة الإنجابية.

نحو تثقيف إنجابي مبني على العلم

في ظل الانتشار الواسع للمعلومات المضللة حول الصحة الإنجابية، يصبح الدمج بين التكنولوجيا والسياسات التعليمية وتدخل منصات التواصل الاجتماعي ضرورة ملحة. على المستوى التكنولوجي، توفر تطبيقات وأدوات مثل Clue وSocheton محتوى علمي موثوق مبني على الأدلة، مع أدوات تفاعلية تساعد النساء على فهم دوراتهن، متابعة خصوبتهن، واتخاذ قرارات صحية مستنيرة، بما يراعي خصوصية وسياق المستفيدين.

على صعيد التعليم، يمثل إدماج التربية الجنسية الشاملة حقًا أساسيًا للطلاب، إذ يسد فجوات المعرفة التي تغذيها الوصمة الاجتماعية والمفاهيم الخاطئة، ويمنح الشباب أدوات نقدية للتعامل مع المعلومات الرقمية المتناقضة. أما منصات التواصل الاجتماعي، فتحتاج إلى تحسين أدوات التحقق من المعلومات، وتشجيع المحتوى الموثوق، لتقليل تأثير الخوارزميات التي تُعلي المحتوى العاطفي أو المثير على حساب الدقيق.

بتكامل هذه الحلول، يمكن تعزيز الصحة النفسية والجسدية، وتمكين الأفراد من فهم أجسادهم واتخاذ خيارات صحية قائمة على العلم، بدل الاعتماد على خرافات أو محتوى رقمي مضلل.

اقرأ/ي أيضًا

على مواقع التواصل.. علاجات البشرة بين الوصفات الشعبية والحقائق الطبية

بين الحقائق والعلاجات الزائفة: ما علاقة جرثومة المعدة بأمراض الجهاز الهضمي؟

المصادر

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar