فقر الدم.. بين الدليل العلمي والوصفات الشعبية على مواقع التواصل
فقر الدم من أكثر الأمراض شيوعًا حول العالم، لكنه في السنوات الأخيرة أصبح أيضًا من أكثر المواضيع التي يحيط بها عدد كبير من المعلومات الخاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي. مقاطع تحوز ملايين المشاهدات تدّعي أن الزبيب الأسود أقوى من إبر الحديد، أو أن تنظيف القولون يرفع مخزون الحديد، أو أن المورينجا تشفي فقر الدم والتوحد، وغيرها من الوصفات التي تُقدَّم على أنها حلول طبيعية وسريعة دون أي دليل علمي.
في هذا المقال، يضع مسبار هذه الادعاءات تحت المجهر، ويقارن بين ما يروَّج على المنصات الرقمية وبين ما تثبته المراجع الطبية والدراسات الموثوقة. الهدف هو توضيح الحقيقة العلمية، وتصحيح المفاهيم المنتشرة، وتنبيه الجمهور إلى خطورة الاعتماد على المحتوى الشعبي في القضايا الصحية الحساسة مثل فقر الدم، الذي يحتاج إلى تشخيص وعلاج طبي دقيق وليس إلى وصفات عشوائية من الإنترنت.
الزبيب الأسود أقوى من إبر الحديد؟
مقطع على تيك توك حصد أكثر من 6.7 مليون مشاهدة وأكثر من 72 ألف مشاركة، يزعم أن الزبيب الأسود أقوى من إبر الحديد، وأنه قادر على رفع مستوى الدم من 8 إلى 12 خلال أسبوعين فقط. ويعرض المقطع طريقة التحضير، فينصح بوضع الزبيب الأسود في كأس ثم سكب الماء الساخن عليه وتركه حتى الصباح، وبعد ذلك يُخلط في الخلاط مع عصير الليمون بدعوى أن فيتامين C يساعد على تعزيز امتصاص الحديد، ثم يُشرب المزيج.
هذا الادعاء يخلط بين الفوائد الغذائية الطبيعية للزبيب وبين التأثيرات العلاجية التي لا يمكن تحقيقها بالغذاء وحده. الزبيب الأسود في حقيقته مجرد عنب مجفف يحتوي على سكريات طبيعية، وألياف، وبعض الفيتامينات والمعادن مثل الحديد والبوتاسيوم والمغنيسيوم. لكن كمية الحديد فيه ضئيلة جدًا، لا تتجاوز نحو 1.8 ميليغرام لكل 100 غرام، وهي كمية غير كافية تمامًا لرفع مستوى الهيموغلوبين من 8 إلى 12 خلال أسبوعين.
في المقابل، يحتاج المصابون بفقر الدم إلى جرعة يومية تتراوح بين 150 و200 ميلغرام من الحديد الدوائي القابل للامتصاص، لتعويض النقص في المخزون. كما أن الحديد الموجود في الزبيب هو من النوع غير الهيمي (النباتي)، الذي لا يُمتص إلا بنسبة ضعيفة تتراوح بين 2 و10٪، بينما يمتاز الحديد الموجود في المكملات أو المصادر الحيوانية بامتصاص أعلى بكثير.
أما الادعاء بأن "الزبيب الأسود أقوى من إبر الحديد"، فهو يتنافى مع الحقائق العلمية حول امتصاص الحديد وتكوين الهيموغلوبين. فلكي يرتفع الهيموغلوبين بتلك السرعة، يحتاج الجسم إلى إنتاج نحو 1 غرام من الهيموغلوبين يوميًا، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بتوافر كميات كبيرة من الحديد القابل للامتصاص مباشرة في الدم، وهو ما لا يوفره الزبيب بأي حال.
الاعتماد على وصفات مثل "الزبيب المنقوع بالماء والليمون"، بدلًا من العلاج الدوائي قد يؤدي إلى تفاقم فقر الدم وظهور مضاعفات خطيرة مثل التعب المزمن، تسارع ضربات القلب، ضعف التركيز، وتأخر النمو لدى الأطفال، كما يزيد خطر الولادة المبكرة أو انخفاض وزن الجنين عند النساء الحوامل.
تنظيف القولون قبل أخذ إبر الحديد؟
منشور على إكس حصد أكثر من 680 ألف مشاهدة وأكثر من 330 مشاركة، يدّعي أن انخفاض مخزون الحديد في الجسم قد يكون سببه الطفيليات والديدان الموجودة في القولون، لأنها تتغذى على الحديد. ويضيف نصيحة بضرورة "تنظيف القولون قبل أخذ إبر الحديد"، باعتبار أن ذلك يساعد على رفع مستويات الحديد بشكل أفضل.
صحيح أن بعض أنواع الطفيليات المعوية، مثل الديدان الخطافية والجيارديا، يمكن أن تسبب فقر الدم الناتج عن نقص الحديد لأنها تتغذى على الدم أو تؤدي إلى نزيف مزمن في الأمعاء الدقيقة، ما يسبب فقدان الحديد وسوء امتصاصه.
لكن القول إن "الديدان تتغذى على الحديد في القولون" غير صحيح علميًا، لأن امتصاص الحديد لا يحدث في القولون إطلاقًا، بل في الجزء العلوي من الأمعاء الدقيقة، وتحديدًا في الاثني عشر. القولون لا يشارك في امتصاص الحديد.
أما النصيحة الشائعة بتنظيف القولون قبل أخذ إبر الحديد، فهي غير مدعومة بأي دليل طبي. فبحسب د. بهاما من Cleveland Clinic، فإن ما يسمى "تنظيف القولون" ليس إجراءً آمنًا ولا موصى به من أي جهة طبية معترف بها، كما أن فكرة أن القولون يحتاج إلى تنظيف دوري أو أن هذا التنظيف يمكن أن يعزز امتصاص العناصر الغذائية هي خرافة غير مثبتة. وتوضح د. بهاما أن تنظيف القولون قد يؤدي إلى أضرار خطيرة، منها اضطراب توازن السوائل في الجسم لأن القولون مسؤول عن امتصاص الماء والحفاظ على توازن الأملاح، والتلاعب بهذه الوظيفة يمكن أن يسبب خللًا خطيرًا في توازن السوائل خصوصًا لدى مرضى القلب أو الكلى. كما أن بعض أنواع تنظيف القولون المائي قد تسبب في حالات نادرة انثقاب القولون، خاصة عند إجرائها على يد أشخاص غير مؤهلين، ما يؤدي إلى نزيف أو التهابات حادة قد تنتشر إلى أعضاء أخرى من الجسم. وقد سُجلت حالات لتسمم كبدي وفشل في نخاع العظم نتيجة استخدام أعشاب أو مواد كيميائية في هذه العمليات.
الأسباب الحقيقية لانخفاض الحديد في الجسم متعددة وتشمل فقدان الدم المزمن (مثل الدورة الشهرية أو النزيف الهضمي)، وسوء الامتصاص (مثل الداء الزلاقي)، ونقص الوارد الغذائي، وأحيانًا العدوى بالطفيليات المعوية في بعض البيئات الريفية أو الاستوائية. لذلك، عند انخفاض الحديد، من الضروري أن يُجرى فحص شامل لمعرفة السبب، بما في ذلك تحليل البراز للتحقق من وجود بيوض الطفيليات أو النزيف الخفي. إذا وُجدت طفيليات فعلية، يعالج الطبيب الحالة باستخدام أدوية طاردة للديدان مثل Mebendazole أو Albendazole، وبعد القضاء على العدوى يمكن تعويض الحديد بأمان.
المورينجا تشفي فقر الدم والتوحد؟
منشور على إكس يحصد أكثر من 79 ألف مشاهدة وأكتر من 370 مشاركة، يدعي أن عشبة المورينجا تمتلك قدرات علاجية خارقة، إذ يُزعم أنها تعالج فقر الدم وهشاشة العظام، وتعزز المناعة، بل وتفيد في حالات التوحد. ويصفها بأنها "غذاء خارق" يحتوي على 92 عنصرًا مغذيًا، ويتفوّق على أغلب الأطعمة من ناحية القيمة الغذائية.
المورينجا شجرة استوائية تُستخدم أوراقها وبذورها في الطب الشعبي منذ قرون، وتتميز بأنها تحتوي على عدد من الفيتامينات والمعادن ومضادات الأكسدة، مثل فيتامينات A وC وE والكالسيوم والحديد والبوتاسيوم، لكنها ليست غذاءً سحريًا. فيما يخص فقر الدم، تحتوي المورينجا على حديد نباتي من النوع غير الهيمي، وهو أقل امتصاصًا في الجسم مقارنة بالحديد الحيواني الموجود في اللحوم والكبد. بعض الدراسات الصغيرة أشارت إلى أن تناول المورينجا يمكن أن يرفع مستوى الهيموغلوبين قليلًا عند من يعانون من نقص بسيط في الحديد، لكنها لا تُعدّ علاجًا فعليًا لفقر الدم، ولا يمكن الاعتماد عليها بديلًا للمكملات الدوائية أو العلاجات الطبية الموصوفة.
أما فيما يتعلق بادعاء أنها تعالج هشاشة العظام، تشير دراسة حديثة بعنوان "استكشاف إمكانات المورينجا أوليفيرا في علاج فقدان العظام"، والمنشورة في المجلة الدولية للعلوم الطبية (2025)، إلى أن الأدلة الحالية حول تأثير المورينجا في علاج هشاشة العظام تعتمد فقط على الدراسات قبل السريرية التي أُجريت على الحيوانات والخلايا، ولا توجد حتى الآن دراسات سريرية بشرية تثبت فعاليتها كعلاج مباشر.
أما الادعاء بأنها تعالج التوحد فهو خطير وغير علمي على الإطلاق. حتى اليوم لا يوجد أي علاج نباتي أو دوائي يمكنه "علاج" اضطراب طيف التوحد.
فقر الدم سببه اتساخ الأمعاء؟
مقطع على تيك توك حصد 1.6 مليون مشاهدة وأكثر من 5 آلاف مشاركة، يدعي أن معظم الناس يعانون من نقص الحديد في الدم ليس بسبب سوء التغذية، بل بسبب سوء امتصاص الحديد الناتج عن اتساخ الأمعاء وتراكم الرواسب العميقة فيها. ويقول إن الحل ليس بتناول المكملات أو الأطعمة الغنية بالحديد، بل بالبدء بتنظيف الجهاز الهضمي، لأن ذلك يعيد التوازن للبكتيريا النافعة في الأمعاء ويزيد قدرة الجسم على امتصاص الحديد. ويضيف أن العلاج يبدأ من "برنامج تنظيف" خاص يمكن الحصول عليه عبر الرابط الموجود في "البايو".
مفهوم "اتساخ الأمعاء" أو "رواسب الأمعاء" ليس مصطلحًا طبيًا معترفًا به في أي مرجع علمي أو طبي معتمد. الأمعاء بطبيعتها تنظّف نفسها ذاتيًا عبر حركة الأمعاء المستمرة (التمعّج)، وإفراز المخاط والإنزيمات التي تمنع تراكم أي "رواسب". لا توجد أدلة علمية على أن هناك بقايا "عميقة" تلتصق بجدران الأمعاء وتمنع امتصاص الحديد، وهذه الفكرة تتكرر كثيرًا في الدعاية الخاصة بمنتجات "التنظيف المعوي" لكنها تفتقر لأي إثبات علمي أو تشريحي.
ما يعيق امتصاص الحديد فعليًا هو وجود أمراض مزمنة أو اضطرابات في بطانة الأمعاء الدقيقة، مثل الالتهابات أو التحسس من الغلوتين، أو الاستخدام الطويل لمضادات الحموضة، أو وجود التهابات بكتيرية مثل Helicobacter pylori. هذه الحالات تحتاج إلى تشخيص طبي وتحليل مخبري، وليس إلى "برامج تنظيف" أو خلطات عشبية مجهولة المصدر.
أما ما يذكره المقطع عن "رفع البكتيريا النافعة لتحسين امتصاص الحديد"، فهو يستند جزئيًا إلى فكرة صحيحة. بعض الدراسات الحديثة تشير إلى أن توازن الميكروبيوم المعوي قد يؤثر على امتصاص الحديد، لكن هذا لا يعني أن هناك "برنامج تنظيف" يعالج المشكلة. في الحقيقة، الإفراط في "تنظيف الأمعاء" أو تناول منتجات عشبية مجهولة التركيب قد يؤدي إلى اضطراب توازن البكتيريا النافعة نفسها، ويسبب إسهالًا أو التهابات معوية أو حتى سوء امتصاص أشد.
الترويج لبرامج تنظيف عبر روابط تجارية هو سلوك تسويقي مشبوه يهدف إلى الربح، وليس إلى العلاج، وقد يؤدي إلى تأخير التشخيص والعلاج الحقيقيين، ما يجعل فقر الدم يتفاقم ويؤثر على القلب، والدماغ، والطاقة الجسدية.
شوربة العدس تعالج فقر الدم؟
منشور على اكس حصد أكثر من 87 ألف مشاهدة وأكثر من 115 مشاركة، ينصح الأشخاص الذين يعانون من فقر الدم بتجربة شوربة العدس بالليمون.
العدس بالفعل مصدر نباتي جيد للحديد، لكنه يحتوي على الحديد غير الهيمي، وهو النوع الأقل امتصاصًا في الجسم مقارنة بالحديد الموجود في اللحوم والكبد والأسماك. لذلك لا يمكن اعتبار شوربة العدس علاجًا فعالًا أو كافيًا لفقر الدم الناتج عن نقص الحديد، خاصة في الحالات المتوسطة أو الشديدة. يحتوي العدس على نحو 6 إلى 7 مليغرامًا من الحديد في كل 100 غرام، لكن الجسم لا يمتص سوى 5 إلى 10٪ منها بسبب طبيعة الحديد النباتي، في حين أن الحديد الحيواني يُمتص بنسبة تصل إلى 35٪. لذلك فإن الاعتماد على العدس فقط لتصحيح فقر الدم قد يؤدي إلى بطء التحسن أو استمرار فقر الدم رغم تحسن التغذية العامة.
اقرأ/ي أيضًا
بين الحقائق والعلاجات الزائفة: ما علاقة جرثومة المعدة بأمراض الجهاز الهضمي؟
على مواقع التواصل.. علاجات البشرة بين الوصفات الشعبية والحقائق الطبية






























