أخبار

معاهد التدريب الخاصة في سوريا وظاهرة الشهادات "المعتمدة دوليًا"

صفاء شرباصفاء شربا
date
27 أكتوبر 2025
آخر تعديل
date
4:25 م
3 نوفمبر 2025
معاهد التدريب الخاصة في سوريا وظاهرة الشهادات "المعتمدة دوليًا"
لا دليل على أن معظم تلك الشهادات مختومة ومصدقة ومعتمدة دوليًا| مسبار

يسلّط هذا التحقيق الضوء على ظاهرة انتشار المراكز التدريبية الخاصة في سوريا، التي تروّج لشهادات "مختومة ومصدّقة ومعتمدة دوليًا" كما تدعي، لكنها في الغالب تعمل خارج أي إشراف رسمي أو معايير واضحة للجودة. فبينما تخضع مؤسسات التدريب في كثير من دول العالم لرقابة حكومية صارمة على جودة التعليم والمؤسسات التعليمية، ما يزال هذا القطاع في سوريا يتحرك في منطقة رمادية تُستغل فيها حاجة الشباب إلى فرصة عمل أو وسيلة للهجرة.

الشهادات المصغرة حول العالم: اعتماد رسميّ ومهارات لسوق العمل

يؤكد خبراء التعليم أن فكرة الشهادات المصغّرة أو (Micro-credentials) ليست جديدة، بل تُعّد اتجاهًا عالميًا يهدف إلى سد الفجوة بين التعليم الأكاديمي والمهارات التي يتطلبها سوق العمل. وفقًا لليونسكو فإن هذه الشهادات لها قيمة مستقلة بحد ذاتها، ويمكن أيضًا أن تُسهم في استكمال شهادات مصغرة أخرى أو شهادات كبرى، شرط أن تصدر عن جهة موثوقة وتخضع لمعايير واضحة لضمان الجودة.

تعريف اليونسكو للشهادات المصغّرة Micro-credential

في بلدان، مثل أستراليا وهولندا وكندا، أصبحت هذه الشهادات الصغيرة جزءًا رسميًا من منظومة التعليم العالي، وتُحتسب كساعات أكاديمية معترف بها. ويُنظر إليها اليوم كأداة مهمة لدخول سوق العمل، إذ تُمكّن الأفراد من اكتساب مهارات متخصّصة لا توفّرها غالبًا الدراسات الجامعية التقليدية، مثل البرمجة المتقدمة، وإدارة المشاريع، ومهارات الضيافة والسياحة المتخصّصة.

في سوريا مؤسسات تدّعي الاعتماد الدولي مزاعم غير موثَّقة

في سوريا، كما في دول أخرى تفتقر إلى أنظمة اعتماد شفّافة، تحولت هذه الظاهرة في كثير من الحالات إلى تجارة رابحة. فالمراكز التي تبيع الأمل تُعلن عن "شهادات معترف بها دوليًا"، من دون أن توضّح من هي الجهة المانحة، أو تُفصح عن طبيعة هذا "الاعتراف" الذي تروّج له. وغالبًا ما تعمل هذه المؤسسات بعيدًا عن أيّ نظام واضح للجودة الأكاديمية، مكتفيةً بواجهة إعلانية براقة وشعارات أجنبية توحي بالصدقية.

وما يزال كثير من السوريين حتى اليوم يلجؤون إلى هذه المعاهد كوسيلةٍ سريعة للتحصيل العلمي، بالرغم من رسومها المرتفعة، في ظل صعوبة الوصول إلى التعليم التقليدي والحاجة المادية وندرة فرص العمل. وقد أصبح هذا الخيار بالنسبة لكثير من الشباب السوريين الأكثر واقعية ومنطقية. فالمسألة لا تتعلق فقط باكتساب مهارة بسرعة، بل تتجاوز ذلك إلى السعي للحصول على شهادة "يُقال إنّها معتمدةٌ من جهة أوروبية أو بريطانية"، في محاولة لتقصير المسافة نحو الفوز بفرصة عمل في الخارج، أو تسهيل القبول في برامج مهنية دولية.

إعلان على الفيسبوك لأحد المراكز التدريبية التي تروج للاعتماد الدولي من ألمانيا

لكن الواقع يكشف أن معظم تلك الأوراق لا تتجاوز كونها مستندات محلية تحمل ختم مؤسسة أو توقيع موظف، من دون أي صلة بجامعات أو هيئات اعتماد دولية معروفة. وحتى حين تٌذكر أسماء منظمات أجنبية أو مجالس اعتماد خارجية، غالبًا ما تكون غير موجودة أصلًا، أو لا علاقة لها بالتعليم والتدريب. والنتيجة أن المتدرب يخرج من الدورة وفي يده شهادة "شكلية"، لا تصمد أمام أي تدقيق خارجي، وتفقد قيمتها تمامًا عند محاولة استخدامها للحصول على عمل أو متابعة الدراسة في الخارج.

منشور دعائي متداول على وسائل التواصل الاجتماعي لمركز تدريبيّ في سوريا يدّعي تقديم شهادات معتمدة دوليًا

التحقّق من ادعاء "الاعتماد البريطاني"

في محاولة للتحقق من صحة ما تروّج له بعض المراكز التعليمية في سوريا، التي تدعي منح شهادات "بريطانية معترف بها دوليًا"، أجرى مسبار بحثًا في الموقع الرسمي لهيئة الرقابة البريطانية على الشهادات (Ofqual)، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن الرقابة على المؤهلات والمؤسسات التعليمية في إنجلترا.

عند إدخال اسم الجامعة التي ذُكرت في إعلانات أحد هذه المراكز، تبيّن عدم وجود أي جامعة بهذا الاسم ضمن قاعدة البيانات الرسمية للمؤسسات المعتمدة، ما يثير تساؤلات جدية حول صدقية تلك الجهات التي تستخدم شعارات لماعة وأسماء أجنبية، لاستقطاب الطلبة مقابل مبالغ مرتفعة.

لم تستغرق عملية التحقق المجانية سوى دقائق قليلة، لكنها كانت كافية لكشف الحقيقة. تجربة بسيطة تُظهر أن الشباب يستطيعون، بخطوات سريعة عبر المواقع الرسمية، تجنّب الوقوع في فخ الوهم الأكاديمي، بدلًا من الاعتماد على ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

الموقع الرسمي لهيئة مكتب تنظيم المؤهلات والامتحانات البريطانية (Ofqual)

فجوة في الرقابة والتنظيم: الباب مفتوح للتضليل

على صعيد الرقابة الرسمية، لا توجد في سوريا حتى اليوم هيئة وطنية مستقلة مختصّة حصريًا بالإشراف على مراكز التدريب الخاصة أو بمراجعة آليات اعتماد الشهادات غير الجامعية. وبالعودة إلى المواقع الرسمية لوزارات التربية والتعليم العالي والشؤون الاجتماعية والعمل، لا تتوفر أي قاعدة بيانات أو دليل علني يوضح المراكز التدريبية المعتمدة، أو يميز بين المرخص منها وغير المرخص. وغالبًا ما تقتصر المعلومات المنشورة على الجامعات الحكومية والخاصة والمعاهد المهنية المعترف بها رسميًا.

في ظل هذا الفراغ التنظيمي، يُترك الإشراف على المراكز التدريبية لمديريات التعليم أو غرف التجارة في بعض الأحيان، حيث تُسجَّل هذه المراكز كشركات تجارية أو كمراكز خدمات عامة، من دون أي رقابة فعلية على المناهج، أو نوعية الاعتمادات المعلنة، أو حتى الجهة التي تمنح الشهادات. ونتيجة لغياب التشريعات الدقيقة ووضوح المعايير التنظيمية، يستطيع أي مركز خاص التسويق لبرامج قصيرة وادعاء شراكة مع أكاديمياتٍ أجنبية سواء كانت موجودة أو غير موجودة على أرض الواقع، من دون أن يواجه أي مساءلة قانونية جدية.

تُظهر هذه الفجوة التنظيمية أن غياب الرقابة ليس تفصيلًا إداريًا بسيطًا، بل عاملًا جوهريًا ساهم في ازدهار تجارة الشهادات السريعة، التي تُمنح اعتمادًا شكليًا فقط داخل سوريا وخارجها، وتُسوَّق على أنها "شهادات دولية موثوقة". إن خطر هذه الظاهرة لا يقتصر على التكلفة المادية وبيع أمل كاذب، بل إنها تهدّد صدقية التعليم المهني وتُعرّض الطلاب والسوق لمخاطر حقيقية عند محاولة معادلة الشهادات أو استخدامها في سوق العمل الإقليمي والدولي.

انتشار عربي يتجاوز الحدود

لا يقتصر انتشار المراكز التي تمنح شهادات "معتمدة" خلال وقت قصير على سوريا وحدها، بل يمتد ليشمل العديد من الدول العربية. ففي مصر مثلًا، ورغم إعلان وزارة التعليم العالي عن قائمة سوداء تضمّ المؤسسات التي تدّعي زورًا منح شهادات أكاديمية أو مهنية معتمدة، بهدف حماية الطلاب من الاحتيال، فإن هذه الظاهرة انتشرت على نحو لافت في السنوات الأخيرة.

ويُعزى هذا الانتشار، وفق خبراء التعليم، إلى مجموعة من العوامل، أبرزها رغبة الشباب في الحصول على مؤهل سريع يُسهّل دخولهم إلى سوق العمل، إلى جانب اتساع نطاق التعليم الإلكتروني الذي أتاح فرصًا أوسع لمنصات غير مرخّص لها لتقديم برامجها عبر الإنترنت من دون رقابة كافية.

وفي بعض الحالات، تصل المبالغة إلى حدّ الإعلان عن إمكانية الحصول على درجة "دكتوراه مهنية" خلال بضعة أشهر فقط، مقابل مبالغ مرتفعة، في الوقت الذي تتطلب فيه البرامج الأكاديمية المعترف بها سنوات من البحث والدراسة للحصول على الشهادة نفسها.

إعلان لمركز تدريبي في مصر وليبيا يقدّم "درجة دكتوراه مهنية معتمدة" يمكن الحصول عليها في غضون نصف عام فقط

كيف يمكن للشباب السوري حماية أنفسهم من "مصانع الشهادات"؟

في ظل غياب أي مرجع حكومي موثوق يمكن للطلاب الاعتماد عليه، يبقى اللجوء إلى هيئات الاعتماد الرسمية في الدول التي تمتلك أنظمة تعليمية شفافة وواضحة المعايير هو الخيار الوحيد المتاح حاليًا للتحقق من موثوقية الشهادات. إذ تتيح هذه الهيئات عبر مواقعها الإلكترونية إمكانية الاطلاع على شروط منح الاعتماد وآليات الاعتراف الرسمي بالمؤسسات التعليمية. وغالبًا ما تتطلب الجامعات والمراكز الأكاديمية المعترف بها التزامًا حقيقيًا من الطالب، سواء من ناحية الوقت أو الجهد، وتشمل مسارًا دراسيًا محددًا يخضع لاختبارات أكاديمية دقيقة.

في الدول الأوروبية عمومًا، يمكن لأي طالب التأكد من صدقية الجامعة أو المركز عبر مواقع رسمية تابعة لوزارات التعليم أو هيئات ضمان الجودة، تتيح إجراء بحث عن اسم المؤسسة أو رقم ترخيصها، وهو ما يُسهم في حماية المتعلمين من الوقوع في فخّ المؤسسات الوهمية أو ما يُعرف باسم "مصانع الشهادات".

أما في سوريا، فالمشهد يحتاج إلى تدخل أكثر وضوحًا وصرامة من قبل الجهات الرسمية. إذ تبرز الحاجة إلى رقابة فعالة من الجهات المعنية، مثل وزارة التعليم العالي ووزارة التنمية الإدارية، لضبط المراكز التي تدعي ارتباطها بجامعات أجنبية أو تقدم شهادات "معترف بها دوليًا". كما أن إنشاء قاعدة بيانات وطنية تُدرج فيها المؤسسات التعليمية المرخصة، إلى جانب إطلاق حملات توعوية موجهة للشباب وأولياء الأمور، يمكن أن يشكّل خطوة مهمة نحو الحد من هذه الظاهرة وحماية مستقبل الطلاب من الوقوع في فخ الوهم الأكاديمي.

اقرأ/ي أيضًا

التبرع لغزة بين الموثوقية والاحتيال: كيف نتحقق من صدق الحملة قبل أن ندفع؟

كيف تُستغل الأزمات لشن حملات التصيد الاحتيالي؟

المصادر

كلمات مفتاحية

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar