هل يمكن أن يستعيد بحر قابس عافيته بعد سنة من وقف سكب الفوسفوجيبس؟
نشرت مواقع إخبارية في تونس تقارير حول إمكانية استعادة بحر قابس عافيته بعد سنة من وقف سكب مادة الفوسفوجيبس، ونسبته إلى خبير في البيئة الصناعية.
وجاء في العنوان الذي نشرته وكالة تونس أفريقيا للأنباء "قابس.. خبير في البيئة الصناعية يؤكد أن بحر قابس يمكن أن يستعيد عافيته في ظرف سنة من وقف سكب الفوسفوجيبس".

فماهي مادة الفوسفوجيبس الملوثة في بحر قابس؟ وهل يمكن أن يتعافى منها البحر في سنة واحدة؟
الفوسفوجيبس: المادة التي لوثت بحر قابس منذ السبعينيات
منذ إنشاء المجمع الكيميائي في مدينة قابس عام 1972 (خليج قابس، جنوب شرق تونس)، تم تصريف مئات الملايين من أطنان الفوسفوجيبس غير المعالج في البحر، ما تسبب في مشكلات بيئية خطيرة.
والفوسفوجيبس (PG) هو ناتج ثانوي من صناعة الأسمدة الفوسفاتية يحتوي على تركيزات مرتفعة نسبيًا من المواد المشعة الضارة، على شكل مزيج جبسي سائل (عجينة فوسفوجيبس).
يقوم المجمّع الكيميائي التونسي (GCT)، بعد معالجة خام الفوسفات (الفلورأباتيت) المستخرج من الحوض المنجمي في ولاية قفصة (جنوب غرب تونس) بواسطة حمض الكبريتيك، بإنتاج حمض الفوسفوريك وعدة أنواع من الأسمدة الفوسفاتية.
ولكل طن واحد من حمض الفوسفوريك المنتج، ينتج حوالي خمسة أطنان من الفوسفوجيبس.
وفق دراسة نشرتها "مجلة المواد الخطرة" عام 2024، وأجراها عدد من الباحثين منهم باحثون مستقلون من تونس، فإنه منذ سبعينيات القرن الفائت، تجاوزت الكميات الملقاة في خليج قابس أكثر من 500 مليون طن من الفوسفوجيبس الرطب.

وقد أدى هذا التلوث الصناعي، وفق الدراسة، إلى عواقب مدمّرة على الحياة البحرية والبرية، فضلًا عن آثاره الضارة على صحة السكان المحليين في المناطق الساحلية.
إذ بحسب الدراسة، يتسبب هذا الملوث بمخاطر جسيمة على صحة الإنسان مثل: التشوهات الخلقية، والسرطانات (مثل سرطان الرئة والكلى والبروستات والكبد)، وأمراض الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، والعقم، وتفلور العظام، والموت المبكر…، ويؤثر ذلك بشكل خاص على المجتمعات الساحلية في شط سيدي عبد السلام.
التصريح المنسوب للخبير حول إمكانية تعافي البحر في قابس خلال سنة غير دقيق
بالبحث وجد "مسبار" أن العناوين المتداولة حول تعافي بحر قابس غير دقيقة، ومجتزأة من تصريح المختص في البيئة الصناعية سمير قزبار خلال مداخلة له في برنامج في 60 دقيقة على إذاعة ديوان إف أم، بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، حول الوضع البيئي في قابس.
وكانت الإذاعة قد اقتطعت جزءًا من مداخلته، مع عنوان "إذا توقف سكب الفوسفوجيبس، سينظف بحر قابس في عام".

لكن بالعودة إلى المداخلة الكاملة للخبير والمنشورة في موقع الإذاعة، يتضح أنه قسّم البحر قبالة خليج قابس إلى منطقتين، وبحسب نسبة التلوث في كل منطقة، حدد فترة التعافي فيها، وفق شروط علمية.
وأكد أن الحل الوحيد والجاد والمشروع للأزمة البيئية في قابس هو تفكيك الوحدات الملوثة.
وبعد انتشار التصريح المجتزأ المنسوب إليه، في وسائل إعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، أوضح المختص في منشور له على موقع فيسبوك، أن بحر قابس يحتوي على تراكمات من الرواسب الملوّثة التي تستوجب عمليات جهر وتنظيف، في حين أن بقية البحر قادرة على استعادة عافيتها تدريجيًا منذ السنة الأولى بعد وقف السكب، وذلك استنادًا إلى دراسات وتحاليل بيئية دقيقة.
وأضاف في منشور له أن "خليج قابس يتميز بحركة مد وجزرٍ نشطة تولد تيارات بحرية تساهم في نقل الرواسب إلى الأعماق، حيث يحدث تخفيف طبيعي (dilution) للملوثات كما أن إيقاف سكب الفوسفوجيبس سيؤدي إلى تحسّن ملحوظ في جودة المياه وعودة عملية التركيب الضوئي (photosynthèse) إلى نشاطها الطبيعي، بما يسمح بتجدد النباتات البحرية والنظم البيئية المرتبطة بها".
ولمزيد التوضيح تواصل مسبار مع الخبير سمير قزبار الذي بين أن شاطئ قابس يمتد على أكثر من 80 كيلومترًا، وأن المنطقة المتأثرة بتصريف الفوسفوجيبس في البحر تغطي دائرة يبلغ نصف قطرها نحو 16 كيلومترًا حول نقطة التصريف الواقعة بالقرب من مصانع المجمع الكيميائي.
وأضاف أن أعلى نسب الفوسفوجيبس، خصوصًا الملوِّثات المصاحبة له، تتركز في منطقة لا تتجاوز 3 كيلومترات من نقطة التصريف، وهي منطقة تتطلب بشكل عاجل أعمال جرف لإزالة الرواسب الملوّثة، إذ إن الطبيعة وحدها ستحتاج إلى عدة عقود للقيام بذلك أما المناطق الأبعد، فإن البحر قادر على البدء في استعادة عافيته منذ السنة الأولى من إيقاف التصريف، إذ إن تأثير التلوث فيها يعود أساسًا إلى عكارة المياه التي تُعدّ مضرّة جدًا بالحياة البحرية.
وبين أنه في المناطق التي تتجاوز مسافة 3 كيلومترات والتي تحتوي على طبقات أقل سُمكًا من الفوسفوجيبس، سيستغرق التعافي الطبيعي وقتًا أطول قليلًا، لكن المؤكد أنه بمجرد التوقف عن التصريف ستظهر مؤشرات التحسن فورًا، مع حاجة بضع سنوات إضافية لعودة نمو الكائنات والنباتات البحرية.
وختم الخبير بالتأكيد على أن إيقاف تصريف الفوسفوجيبس يُعدّ ضرورة عاجلة من أجل إعادة إحياء الحياة البحرية في خليج قابس، وتمكين شاطئه من استعادة مكانته كوجهة سياحية ساحلية كما كان في سبعينيات القرن الفائت.
وبسؤاله عن مصادر المعلومات التي صرح بها، أكد أنّها مستقاة من مخبر البيولوجيا البحرية بالمدرسة العليا للفلاحة الذي قام بتحاليل ودراسات حول الموضوع.
آليات معالجة الفوسفوجيبس في البحر
واطلع مسبار على تقرير أنجزته لجنة حماية البيئة البحرية في بحر البلطيق، حول أفضل آليات معالجة مواقع الفوسفوجيبس منها المغمورة تحت الماء أو الواقعة في البحر، ووجد أنها تقوم على العديد من التقنيات المبتكرة والتخطيط البيئي الدقيق، لكن لكل منها تحدياتها.
وتُعدّ تغطية قاع البحر، إحدى التقنيات لإعادة التأهيل، تتضمن وضع طبقة من مادة نظيفة مثل الرمل أو الحصى أو الطين فوق رواسب الفوسفوجيبس في قاع البحر. تعمل هذه الطبقة على عزل الملوِّثات، مما يقلل من انبعاثها في المياه المحيطة ويحمي الكائنات القاعية من التماس المباشر مع النفايات.
وتشترط هذه الآلية أن تكون الطبقة (الغطاء) مستقرة ومقاومة للتيارات البحرية والأمواج وأحداث التآكل المستقبلية، لا سيّما في المناطق المعرضة للعواصف أو لقوى المدّ القوية.
وفي بعض الحالات، يمكن استخدام الحفر لإزالة رواسب الفوسفوجيبس من قاع البحر بشكل فعلي. يُعتمد هذا النهج عادةً عندما يشكّل التلوث خطرًا فوريًا وشديدًا على البيئة أو صحة الإنسان، وعندما تكون الرواسب قابلة للوصول والاستخراج.

لكن يمكن أن يكون الإجراء مضرًا للبيئة البحرية، لذا يجب اتخاذ تدابير دقيقة للسيطرة على سُحُب الرواسب ومنع التلوث الإضافي أثناء عملية الإزالة. كما يجب تخزين المواد المستخرجة ومعالجتها بشكل آمن بعد الإزالة.
وفي بعض الحالات، قد يكون السماح للموقع بالتعافي الطبيعي مع تطبيق بروتوكولات مراقبة معززة الخيار الأكثر جدوى، خصوصًا عندما تفوق مخاطر الاضطراب الناتج عن الإصلاح فوائد التدخل.
يعتمد التعافي الطبيعي على الدفن التدريجي للفوسفوجيبس بواسطة ترسيب الرواسب الطبيعية، وتخفيف الملوثات بفعل التيارات البحرية، واستعادة النظم البيئية البحرية في نهاية المطاف. وقد يستغرق التعافي الطبيعي عقودًا أو أكثر، وتعتمد فعالية هذا النهج بشكل كبير على الظروف الخاصة بالموقع ومدى التلوث.
التعافي من الفوسفوجيبس رهين عدة عوامل
وقد بين الخبير الدولي في البيئة عادل الهنتاتي أن تونس تستعمل الفسفاط لاستخراج الحامض الفوسفوري وأسمدة كيميائية أخرى وأن طنًا واحدًا من الحامض الفوسفوري ينتج 5 أطنان من مادة الفوسفوجيبس. كما لفت إلى أن الاتجاه العالمي في التعامل مع الفوسفوجيبس يتمثل في تكديسه وتثمينه فيما بعد ما عدا في تونس يتم التخلص منه في البحر بكل من قابس وصفاقس وبمجرد إلقائه في البحر يلحق به أضرارًا جسيمة لأنه حامض جدًا ويحتوي على معادن ثقيلة تعتبر مسمومة نسبيًّا .
ولفت الهنتاتي إلى أن فترة تعافي البحر من آثار هذه المادة مقترن علميًّا بالكمية التي سكبت فيه والموقع وحجم وسمك طبقة الفوسفوجيبس.
وأضاف أنّ للبحر طاقة تنقية طبيعية ورجح أنه في حال توقف سكب الفوسفوجيبس قد يستعيد بحر قابس نظافته وثروته السمكية بين 3 أو 4 سنوات.
مناطق التلوث البحري بسبب الفوسفوجيبس في تونس
بحسب دراسة نشرت عام 2018 حول تأثير تصريف نفايات الفوسفات في البيئة البحرية بتونس. تم تحديد مناطق مختلفة متأثرة بهذا التصريف، بالاعتماد أساسًا على بصمة δ13C للمادة العضوية الرسوبية وعلى تركيز الفوسفور الكلي (Ptotal)، وجاء التقسيم كما يلي:
- المنطقة القريبة من المجمع الصناعي للفوسفات متأثرة بشدة بتصريف النفايات الصناعية، ويمكن اعتبار حالتها البيئية حرجة.
- المنطقة البحرية قبالة سواحل قابس متأثرة أيضًا بشكل كبير بصناعات الفوسفات.
- وظهرت أولى علامات التلوث الفوسفوري الناتج عن تصريف النفايات الصناعية في جزيرة جربة.

تشير الدراسة إلى أن الحجم الكبير من النفايات الصناعية المصرفة يؤدي إلى عواقب خطيرة على البيئة البحرية في الجزء الداخلي من خليج قابس، منها: تراكم المادة العضوية والأباتيت الفتاتي، وحموضة مياه البحر مع تكوّن عُقد كربوناتية، وحدوث تخثث شديد للبيئة البحرية.
كما يؤثر التصريف الكبير للفوسفوجيبس، وفقها، في دورة الفوسفور، من خلال زيادة ترسيب الفوسفور الذاتي التكوّن، خاصة في خليج قابس.
بالبحث لم يعثر مسبار على دراسات دقيقة، تشير إلى إمكانية تعافي البحر من المادة في وقت قريب، في حال تم التوقف عن سكبها. وتبين أن دولًا مثل المغرب ولبنان، تعاني من نفس الإشكال بسبب سكب كميات من الفوسفوجيبس غير المعالج في البحر، ما تسبب في أضرار بيئية كبرى.

من السكب إلى التخزين: حلول مضرة بالبيئة
في الوقت الذي تتجه فيه وزارة الصناعة نحو تخزين الفوسفوجيبس عوض سكبه في البحر لحل الإشكال البيئي في قابس، وفق ما أعلن عنه وزير التجهيز والإسكان صلاح الزواري خلال الجلسة العامة التي انعقدت بمجلس نواب الشعب يوم 20 أكتوبر الجاري، يرى العديد من الخبراء في البيئة أن الحل الوحيد هو تفكيك المجمع الكيميائي بالمنطقة.
إذ تسبب التخزين في تكون جبال من الفوسفوجيبس في محافظة صفاقس تمتد على مساحة هكتارات انتفض بسببها أهالي المنطقة مرارًا، لعل أبرزها عندما تم إصدار قرار وزاري في مارس/آذار 2025 يقضي بحذف مادة الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة وإدراجها كمادة منتجة
وقد تناولت دراسات علمية مخاطر التخزين، خاصة التي لا تتم وفق معايير صارمة، وآثارها السلبية على البيئة.
إذ يقتضي الإجراء تخصيص مساحات شاسعة من الأراضي، وغالبًا ما تتجاوز هذه المساحات حجم المواقع الصناعية الخاصة بعملية الإنتاج نفسها.
وفق الأبحاث، تتحول مواقع تخزين الفوسفوجيبس إلى مصادر معقدة للتلوث وتشويه البيئة؛ إذ تُحدث اضطرابًا في تضاريس الأرض، وتقطع أو تغيّر التدفق الطبيعي لحركة المواد داخل التربة، وتلوّث المشهد بمواد ناتجة عن النشاط الصناعي، كما تغيّر طبيعة تدفقات الهواء السطحية وتؤثر في مؤشر رطوبة الموقع.

وتُعدّ الكومة مصدرًا لتأثيرات هيدروديناميكية على البيئة، إذ تتسبب في تغيّر مستويات المياه الجوفية وتؤدي إلى آثار سلبية في المناطق السكنية.
تُعدّ مشكلة التخلص من الفوسفوجيبس وتخزينه قضية قائمة في العديد من دول العالم، ورغم تعدد الحلول المعتمدة، فإنّ جميعها يؤثر على البيئة والمجتمعات بشكل أو بآخر. وإلى اليوم لم تخلص التجارب والدراسات العلمية إلى إيجاد حلولة فعالة لها.
اقرأ/أيضًا
منها مزاعم تمثيل الاختناق: أبرز الادّعاءات المضللة التي استهدفت الحراك البيئي في قابس
ببيانات مضللة وأخرى زائفة: ما حقيقة ادعاءات محمد البوزيدي حول المحروقات في تونس؟

























