بين شعار سعيّد ومشروع ميزانية 2026: التعويل على الذات في ضوء الأرقام الرسمية
قدمت الحكومة التونسية، الثلاثاء 14 أكتوبر/تشرين الأول 2025، إلى البرلمان مشروع قانون المالية لسنة 2026، في سياق سياسي واقتصادي يتّسم بتكريس شعار "التعويل على الذات" الذي تتبناه السلطة منذ سنوات.
وتروج الحكومة إلى أنّ المشروع يعكس استمرار التوجه نحو تقليص الاعتماد على التمويل الخارجي واللجوء المكثّف إلى الموارد الداخلية، رغم ما يثيره ذلك من جدل حول مدى واقعية الأمر.
وحسب ما يراه الخبراء الاقتصاديون في تونس، فإن الخطاب الرسمي، الذي يعيد التأكيد على هذا الشعار في كل مناسبة، يسعى لتثبيت صورة نجاح اقتصادي، في حين تكشف المعطيات المحاسبية عن اعتماد متواصل على القروض الخارجية لتغطية العجز المالي.
وجدّد الرئيس التونسي قيس سعيّد، تأكيده على شعار "التعويل على الذات"، خلال لقائه في الثامن من سبتمبر/أيلول 2025، بكلّ من مشكاة سلامة الخالدي، وزيرة المالية، وفتحي زهير النوري، محافظ البنك المركزي التونسي، بقصر قرطاج.
وتناول اللقاء تنفيذ ميزانية الدولة إلى نهاية السداسي الأول من سنة 2025، إلى جانب التوجهات الكبرى لمشروع ميزانية الدولة لسنة 2026، قبل إيداعه بالبرلمان.
وأشار سعيّد إلى أنّ سياسة التعويل على الذات مكّنت من التحكم في نسبة التضخم التي لم تتجاوز 5.2%، وتحقيق نسبة نمو تجاوزت 3% في الثلاثي الأخير، إلى جانب استقرار سعر الصرف وارتفاع الاحتياطي من العملة الأجنبية إلى ما يعادل 109 أيام توريد.
وبعد مراجعة "مسبار" لمشروع قانون المالية لسنة 2026، والرجوع إلى قوانين المالية السابقة منذ إطلاق شعار التعويل على الذات ونتائجها وانعكاساتها، تبيّن أن هناك تناقضًا واضحًا بين الخطاب الرسمي حول التعويل على الذات والواقع المالي لتونس.
فبينما تدعو التصريحات الرسمية إلى تقليص الاعتماد على التمويل الخارجي وتعزيز الموارد الذاتية، تكشف الأرقام الرسمية أنّ تونس ما تزال تعتمد بشكل كبير على الاقتراض الخارجي لتغطية حاجيات ميزانيتها.
مشروع قانون المالية 2026: ذروة التمويل النقدي والتناقض الجبائي
يظهر مشروع قانون المالية لعام 2026 اعتمادًا مكثفًا على الموارد الذاتية الداخلية في الاقتراض، واللجوء غير المسبوق إلى التمويل النقدي.
وفي حديثها لمسبار قالت الصحفية المتخصصة في الاقتصاد جنات بن عبد الله، إن مشروع قانون ميزانية 2026، من ناحية أولى هو امتداد لسياسة الدولة التونسية منذ سنة 2021 إلى اليوم، حيث أن الأسس التي بنيت على المشروع تستند إلى برنامج صندوق النقد الدولي الذي تصر الحكومة على تجاهله.
وأضافت بن عبد الله أن شعار التعويل على الذات يفترض أن يستند على سياسة إنتاجية بمعنى العمل على تقليص التبعية والتعويل على الذات وإيفاء كل مستلزمات السوق التونسية، إلا أنّ الشعار اتخذ منحى مختلفًا وأصبح يستعمل في إطار عدم وجود الاقتراض الخارجي.
ومن هذا المنطلق حرصت الحكومات ما بعد 2021، على تجسيد هذا الشعار من خلال تجنب التعامل مع صندوق النقد الدولي والاقتراض منه على خلفية الشروط التي يفرضها والتي تمس البعد الاجتماعي.
اتجهت تونس إلى الاقتراض الداخلي كبديل عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وهذا لا يعني أنها توقفت عن الاقتراض الخارجي في العموم، بل واصلت اقتراضها من مصادر أخرى تقليدية على غرار البنك العالمي والبنك الإفريقي للتصدير والتوريد وقروض ثنائية من دول مختلفة.
وتتطابق تصريحات جنات بن عبد الله مع بيانات وزارة المالية في تقريرها المخصص للنتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة حتى نهاية مارس/آذار 2025. واستدلت بن عبد الله في حديثها باحتجاجات النواب الحاليين على الحكومات المتعاقبة في عدة مناسبات، لأنها تلجأ إليهم للمصادقة على مشاريع اتفاقيات القروض.
وفي هذا السياق، اعتبر النائب عماد أولاد جبريل في مداخلة له داخل المجلس في أغسطس/آب 2024، أن ما تروّجه الحكومة حول "سداد الدين الخارجي" و“التعويل على الذات” لا يعكس الواقع، واصفًا هذه التصريحات بأنها محاولة لتضليل الرأي العام.
وقال إنّ نسبة التداين بلغت نحو 80%، وأنّ أغلب أعمال البرلمان تقتصر على المصادقة على القروض الجديدة، مضيفًا أن "كل قرض يُسدَّد بقرض آخر".
من جانبه، أوضح النائب رياض جعيدان في تصريح لإذاعة اكسبراس إف أم التونسية في إبريل/نيسان 2025، أن البرلمان رفض الموافقة على مشروع قانون يتعلق بقرض جديد من الوكالة الفرنسية للتنمية لدعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة، لأنه يُعدّ "ظاهرة صحية" تعبّر عن ممارسة رقابية فعلية.
وأشار إلى أن النواب وجّهوا خلال الجلسة العامة أسئلة دقيقة لوزير الاقتصاد والتخطيط حول سياسة الحكومة في الاقتراض وطرق توظيف القروض، لكنّ الوزير لم يقدّم إجابات واضحة.
كما شدّد جعيدان على مطالبة عدد من النواب بإجراء تدقيق شامل في مآل القروض السابقة وتحديد القطاعات المستفيدة، دون تلقي أيّ ردّ من الجانب الحكومي.
التمويل المباشر من البنك المركزي
يعد الفصل الخاص بالتمويل المباشر من البنك المركزي التونسي (BCT) التجسيد الأقصى لسياسة "التعويل على الذات"، ولكنه في الوقت ذاته يمثل مصدر الجدل الأكبر، إذ رخص مشروع القانون للبنك المركزي بمنح تسهيلات مباشرة للخزينة العامة للبلاد التونسية بقيمة أقصاها 11 مليار دينار أي ما يعادل تقريبًا 3.7 مليار دولار. وهذه التسهيلات تمنح دون فائدة موظفة وتسدد على مدى 15 سنة، منها 3 سنوات إمهال.
وفي هذا السياق، حذر خبراء من بينهم رضا شكندالي من أن هذا التمويل يُعد "تمشيًّا غير سليم" وأن مخاطره التضخمية تفوق مخاطر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وقالت الخبيرة الاقتصادية جنات لمسبار، إن هذه الخطوة تقطع مع احترام ما جاء في قانون استقلالية البنك المركزي المصادق عليه سنة 2016 والذي يمنع عنه تقديم تسهيلات مالية للدولة وتكليف البنوك المحلية لإقراض الدولة وتمويل الميزانية بنسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي.
وتساءلت بن عبد الله قائلة "ألم يكن من الأجدر على الحكومة إلغاء قانون استقلالية البنك المركزي والعودة إلى قانون النظام الداخلي لسنة عدد 90 لسنة 1958 المؤرخ في 19 سبتمبر وتحديدًا الفصل 43 منه، الذي بمقتضاه يتولى البنك المركزي تقديم تسبقه لميزانية الدولة في بداية كل سنة في حدود 10% تقريبًا من المداخيل الجبائية للسنة المنقضية".
وأضافت أن النظام الحالي اعتبر أن اللجوء إلى البنك المركزي، تجسيد لشعار التعويل على الذات كونه مؤسسة عمومية وطنية والحال أن مفهوم التعويل على الذات يستند الى أبعاد أخرى تتعلق بمفهوم السيادة الوطنية والأمن القومي.
مع تقدير نفقات الميزانية لـ 2026 بما مجموعه 63.575 مليار دينار ومداخيل ذاتية بـ 52.560 مليار دينار، يقدر العجز التمويلي بـ 11.015 مليار دينار، مما يستلزم تعبئة موارد خزينة إجمالية تصل إلى 27.064 مليار دينار.
ويبلغ مجموع الاقتراض الداخلي (19.056 مليار دينار) والتمويل النقدي (11 مليار دينار)، أي أكثر من 30 مليار دينار لتمويل ميزانية حجمها 63.575 مليار دينار.
وفي هذا الإطار أشارت بن عبد الله في حديثها لمسبار أن قانون البنك المركزي عدد 64 لسنة 2016 المتعلق بضبط النظام الاساسي للبنك المركزي التونسي هو من أهم الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي على تونس للحصول على قرض ثان في 2016، بعد حصولها على القرض الأول سنة 2013.
سداد الديون على حساب التنمية وإثقال كاهل المواطن: الثمن الاقتصادي للسيادة
في ميزانية عام 2026، تبرز مشكلة سداد الديون مقابل التنمية كأحد أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجه تونس، فبينما تشهد الميزانية ارتفاعًا في حجم الإنفاق العام ليبلغ نحو 23.1 مليار دولار، فإن جزءًا كبيرًا من هذا التمويل يعتمد على الاقتراض الداخلي والخارجي لتغطية عجز مالي يناهز 3.4 مليار دولار، وهو ما يثير مخاوف جدية من تراجع الاستثمار في قطاعات التنمية الحيوية.
ويرى محللون على غرار الخبير الاقتصادي معز حديدان وجنات بن عبد الله أن تغليب خيار سداد الديون على حساب الإنفاق التنموي يهدد بخلق حلقة مفرغة من المديونية، حيث تُستخدم القروض الجديدة لتسديد القديمة بدل توجيهها للاستثمار في البنية التحتية أو تحفيز الاقتصاد الحقيقي.
ووجد مسبار من خلال تتبع تطور الناتج المحلي للسنوات الفائتة، أن اقتصاد البلاد شهد تداعيات سلبية على المستوى الكلي، حيث أدت السياسات المتبعة إلى ركود اقتصادي ونسب نمو ضعيفة، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
ويرى بعض الخبراء أن النمو الفعلي لم يتجاوز 0% سنة 2023، وأدى ضعف النشاط الاقتصادي والانكماش إلى خسارة في المداخيل الجبائية تجاوزت 2 مليار دينار، حيث اعتبر رضا شكندالي أن تونس تعاني ركودًا اقتصاديًا تعكسه نسب النمو التي تم تحقيقها، موضحًا أن نسبة النمو الاقتصادي المحققة في 2023 كانت في حدود 0% في حين كانت تقديرات الحكومة لها بـ 1.8% وفي 2024 كانت تقديرات النمو بـ 2.1% فلم تتجاوز النسبة 1.6%.
وفي هذا السياق، ارتفع الضغط الضريبي على المؤسسات والأفراد لتمويل ميزانية الدولة، إذ تشير أرقام مشروع قانون المالية لسنة 2026 إلى ضخامة الضرائب المفروضة، حيث تبلغ الموارد المتوقعة 52.560 مليار دينار، منها 47.773 مليار دينار من المداخيل الجبائية، أي نحو 91% من إجمالي الموارد.
ومن أبرز الضرائب الجديدة في المشروع، فرض 1.5 دينار على كل فاتورة شراء بقيمة 50 دينارًا أو أكثر، و2 دينار على كل فاتورة بقيمة 100 دينار أو أكثر، وفق الفصل 21 من القانون.
كما أقرت الحكومة ضريبة على الثروة، بنسبة 0.5% للثروات المقدرة بين 3 و5 ملايين دينار، و1% للثروات التي تتجاوز 5 ملايين دينار، ضمن خططها للإصلاح الضريبي.
ويعكس هذا الاعتماد الكبير على الضرائب توجه الدولة نحو تعزيز إيراداتها الداخلية لتغطية النفقات العامة، في ظل محدودية الموارد غير الجبائية والهبات التي لا تتجاوز 4.787 مليار دينار.
غير أن هذه السياسات قد تضر بالاقتصاد التونسي، إذ يثبط ارتفاع العبء الضريبي على المؤسسات الاستثمار، ويضعف القدرة التنافسية للشركات، بينما تقلل زيادة الضرائب على الأفراد القدرة الشرائية وتزيد الضغط على الأسر، خاصة ذات الدخل المحدود.
سياق وتاريخ إطلاق شعار "التعويل على الذات"
ظهر شعار "التعويل على الذات" في تونس كتوجه سياسي يهدف إلى تحقيق استقلال القرار المالي عن الإملاءات الخارجية، وقد ارتبط هذا الشعار بالرفض القاطع لشروط صندوق النقد الدولي، والرد على سلوك الاتحاد الأوروبي وقلة الدعم المالي، مؤكدًا ضرورة "السيادة الوطنية" ورفض الارتهان للأجانب.
وتحديدًا، طرح رئيس الجمهورية قيس سعيّد لأول مرة شعار "التعويل على الذات" في لقائه برئيسة الحكومة نجلاء بودن يوم 1 ديسمبر 2022، وهو المفهوم الذي سيُصبح لاحقاً أحد أبرز العناوين التي يكرّرها في خطبه الرسمية.
وبدأ التفعيل الملموس لهذا الشعار في الخطاب والتوجهات المالية منذ عام 2023 و2024، خاصة بعد تعليق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تدريجيًا. وقد رُوّج لهذا التوجه كسبيل للحفاظ على المال العام وتجنب التضخم غير المفيد في المؤسسات العمومية.
وفي حين تذهب الرؤية الرسمية إلى أن التعويل على الذات يعني استغلال الموارد الوطنية لبناء دولة اجتماعية وتحقيق التنمية الشاملة، يرى الخبراء الاقتصاديون على غرار أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي، أن هذا الشعار في تطبيقه لم يكن خيارًا استراتيجيًا نابعًا من رؤية تنموية شاملة، بل كان "ضرورة اضطرارية" فرضتها الصعوبات المتزايدة في تعبئة الموارد المالية الخارجية الا أنها فشلت لأنها اختصرت في التقشف والاقتراض الداخلي بدلًا من الاعتماد على استغلال حقيقي للموارد المحلية.
اقرأ/ي أيضًا
هل يمكن أن يستعيد بحر قابس عافيته بعد سنة من وقف سكب الفوسفوجيبس؟
بعد بيان استثناء المغرب من التمور التونسية: توضيح رسمي وادعاءات مضللة في الفضاء الرقمي



























