عمل

الزراعة والحرب.. آثار انهيار أكبر قطاع اقتصادي في السودان

محمد العترمحمد العتر
date
3 نوفمبر 2025
آخر تعديل
date
7:38 ص
5 نوفمبر 2025
الزراعة والحرب.. آثار انهيار أكبر قطاع اقتصادي في السودان
نصف السودانيين مهددون بالمجاعة بسبب تدهور الزراعة | مسبار

منذ اندلاع الحرب السودانية في 15 إبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، عرف السودان انهيارًا كبيرًا لقطاع الزراعة الذي بلغت نسبة العاملين فيه نحو 60% على الأقل من إجمالي القوى العاملة في البلاد قبل الحرب.

وكما أدت الحرب إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح الملايين، أدت أيضًا إلى تدمير وتقلص ملايين الأفدنة الزراعية، ما ساهم في تأزم الوضع الاقتصادية من جهة وتفاقم مخاطر المجاعة من جهة أخرى.

وتُظهر الأدلة المستندة إلى استخبارات المصادر المفتوحة (OSINT)، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية، ومواد بصرية وتقارير موثقة من منظمات أممية ومستقلة، مدى تقلص المساحات المزروعة في البلاد، وإنعكاس ذلك على السكان.

الزراعة: انهيار أكبر قطاع اقتصادي في السودان

قبل اندلاع الحرب، كانت الزراعة القطاع الاقتصادي الأكبر في السودان بفارق كبير عمّا يليها من قطاعات. وبلغت نسبة إسهام قطاع الزراعة في الناتج المحلي 35% في العام الذي سبق اندلاع الحرب مباشرة، إذ مثلت الزراعة 70% من إجمالي صادرات البلاد في العام نفسه، أي 2022.

بعد مرور عام واحد من الحرب، قدّرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، انخفاض إنتاج البلاد من المحاصيل الأساسية بنسبة 46%، ومع النقص الحاد في السيولة النقدية بسبب اضطرابات الحرب من جهة، وانخفاض الإنتاج الزراعي من جهة أخرى، كان السودان عاجزًا عن تمويل استيراد مخزون غذائي كافٍ لتغطية العجز. 

وبحسب إفادة وزير المالية السوداني في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد أقل من سبعة أشهر على بدء الحرب فقط، تقلّص اقتصاد الأغذية الزراعية بنسبة 33.6% دون حساب خسائر الاقتصاد الزراعي غير الرسمي. 

فيما كشفت دراسة مسحية نُشرت في أغسطس/آب 2023، أنه بحلول الشهر الثالث من الحرب، منحت 46% من مصانع المعالجة الزراعية في الخرطوم وحدها، عمالها إجازات دون أجر، فيما أبلغت 80% من شركات التصنيع الزراعي عن نقص حاد في مدخلات الإنتاج الرئيسية.

إذًا، تسبب التأثر الكبير الذي حدث لقطاع الزراعة نتيجة الحرب، في أزمات مركّبة، ليس فقط بتأثر مصدر كسب العيش لنحو 60% من السكان، لكن أيضًا بتأثر اقتصاد البلاد، ما فاقم أزمة غذائية وقعت أساسًا بسبب تأثر القطاع الزراعي. 

رؤية دمار الأراضي الزراعية السودانية من الفضاء

بعد اندلاع الحرب بنحو ثلاثة أشهر، أجرت منظمة الفاو تقييمًا جيوغرافي-مكاني لموسم الزراعة الصيفي في السودان، خلال الشهور من يوليو/تموز إلى سبتمبر/أيلول، لتقدير مساحة الأراضي التي زُرعت بالفعل مقارنة بالمواسم من 2018 وحتى 2022. 

وجد التقييم الذي اعتمد على الاستشعار عن بعد باستخدام الأقمار الصناعية وتحليل النطاقات المتخصصة، أن المساحات الزراعية المطرية (التي تعتمد على الري بالأمطار) انخفضت بنسبة 48% عن متوسط قيم المواسم السابقة ما بين 2018 و2022.

وبلغ الأمر ذروته في سبع مناطق على الأقل، تجاوز انخفاض المساحات المزروعة فيها خلال يوليو/تموز 2023 ما مقداره 250 ألف هكتار (2500 كيلومتر مربع)، مقارنة بشهور يوليو في المواسم السابقة، فيما تجاوز انخفاض المساحات المزروعة في خمس مناطق خلال أغسطس/آب 2023 ما مقداره 100 ألف هكتار (ألف كيلومتر مربع)، مقارنة بشهور أغسطس في المواسم السابقة، وبالجملة انخفضت المساحات المزروعة في أغسطس 2023 ما نسبته 7% مقارنة بأغسطس في السنوات ما بين 2018 و2022.

أما بالنسبة إلى مساحات الزراعة المروية (أي الأراضي التي تعتمد على الري الاصطناعي)، فسجلت معدلات انخفاض غير مسبوقة وصلت في يوليو/تموز 2023 إلى 82% مقارنة بمتوسط السنوات الخمس السابقة. وسجلت ولاية الجزيرة أكبر نسبة فقدان للأراضي الزراعية بعد الحرب.

تُعد ولاية الجزيرة أهم المناطق الزراعية في السودان. هيّأ موقعها بين النيلين الأزرق والأبيض تربة خصبة لتكون المركز الزراعي الأبرز في البلاد، حتى أنها كانت تُساهم وحدها بإنتاج أكثر من 42% من محصول القمح الذي تنتجه البلاد.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية التي حللها "مسبار" أن ولاية الجزيرة كانت من أوائل المناطق التي تضررت الزراعة فيها بعد الحرب، إذ تُظهر صور الأقمار الصناعية في الأسبوع الأول من شهر مايو/أيار 2023، انخفاضًا كبيرًا في المساحات المزروعة من الأراضي مقارنة بشهر مايو في السنة السابقة 2022. 

ويمتد هذا الانخفاض في مساحة الأراضي المزروعة في "الجزيرة" إلى الشهور التالية، حيث توضح صور الأقمار الصناعية كيف تقلصت المساحة المزروعة شرق ساحل النيل الأبيض في سبتمبر 2023 مقارنة بالشهر نفسه في 2022.

يظهر بشكل أكبر مدى تقلص المساحة المزروعة باستخدام تحليل صور الأقمار الصناعية من خلال المؤشر المعياري لتباين الغطاء النباتي (NDVI)، والذي يُمكن من خلاله قياس مدى كثافة وصحة الغطاء النباتي فضلًا عن وجوده من عدمه.

على سبيل المثال، تُظهر الصورتان التاليتان مقارنة للمنطقة نفسها بين عامي 2022 و2023، تحديدًا شهر سبتمبر من كل عام. تغطي المقارنة مساحة تبلغ قرابة 3700 كيلومتر مربع، أي ما يساوي 15% من مساحة ولاية الجزيرة. ويُمكن بوضوح ملاحظة انخفاض في الغطاء الأخضر في صورة سبتمبر 2023، مقارنة بصورة 2022، مع وجود بقع داكنة أكثر اتساعًا تُشير إلى تربة جرداء أو قلة الغطاء النباتي.

وفي حين تُظهر الصورة الأولى من سبتمبر 2022، مشهدًا خضبًا متجانسًا مع الحد الأدنى من تفتت اللون الأخضر الداكن (قيم تزيد عن 0.2 في مؤشر NDVI)، تُظهر الصورة الثانية من 2023 زيادة في التفتت وتوسع درجات اللون الأصفر (قيم تتراوح بين 0.3 وصفر). وانكشفت التربة بشكل أكثر وضوحًا في المنطقة المدببة المحددة بالمثلث الأحمر في الشكل التالي، الذي تُشير فيه الأسهم الزرقاء إلى مناطق انحسار وتآكل الغطاء الأخضر.

وإن كانت ولاية الجزيرة نموذجًا عن التدهور المبكر للأراضي الزراعية في أعقاب الحرب مباشرة، إلا أنّها بطبيعة الحال ليست الوحيدة، بل إنّ مناطق أخرى شهدت على مدار الشهور التالية تدميرًا أكبر للمساحات الزراعية والغطاء النباتي فيها. 

وسجلت ولايتي شمال كردفان وشمال دارفور معدلات مرتفعة في خسائر الأراضي الزراعية والغطاء النباتي نتيجة للحرب بشكل مباشر. إذ يُظهر تحليلنا لصور أقمار Sentinel-2 باستخدام مؤشر NDVI، انخفاضًا كبيرًا بشكل متتالي للغطاء النباتي في الأراضي الزراعية بولاية شمال كردفان.

باستخدام مؤشر الغطاء النباتي NDVI، حلل مسبار صور أقمار صناعية تغطي مساحة نحو 26 ألفًا و798 كيلومتر مربع بين محليتي الأبيض وبارا في ولاية شمال كردفان. شمل التحليل صورًا ملتقطة خلال أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر، وهي فترة موسم الزراعة في المنطقة، عبر عامي 2022 و2024، وذلك للمقارنة بعد نحو عام من الحرب وقبل نحو عام منه.

وأظهرت نتائج التحليل انهيارًا كبيرًا في الغطاء النباتي خلال 2024 مقارنة بـ2022، إذ انخفضت قيم الغطاء النباتي للأراضي الزراعية في تلك المساحة بما لا يقل عن 20% عن عام 2022. 

وفي حين بلغ متوسط قيم الشهور الخاضعة للتحليل في 2022 نحو 0.287، بلغ المتوسط في عام 2024 نحو 0.228، مع الوضع في الاعتبار أن عام 2022 كان من أشد الأعوام جفافًا في العالم خلال القرن الـ21، وأكثر الأعوام جفافًا خلال العقد الأخير في السودان، خاصة في الولايات التي تعتمد على الأمطار في الزراعة وعلى رأسها ولايتي شمال كردفان وشمال دارفور، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الفاو.

وتُظهر مقارنة المقاييس الإحصائية التي أجراها مسبار لنتائج تحليل NDVI للمساحة المذكورة، انخفاضًا شاملًا في كافة القيم لعام 2024 مقارنة بعام 2022، فمن جهة انخفض المتوسط العام للقيم على مدار شهور يوليو وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر بنسبة تجاوز 20%، من 0.287 إلى 0.228، وانخفض الوسيط (أي الرقم الوسط بين كل القيم) بنسبة 18.8% من 0.277 إلى 0.225، كما انخفض الحد الأقصى (أي متوسط أعلى قيم سُجلت على مدار شهور التحليل)، بنسبة 12.6% من 0.689 إلى 0.602. 

تدمير الزراعة يهدد نصف السودانيين بالمجاعة

بحسب لجنة مراجعة المجاعة (FRC) التابعة لنظام التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC)، يُواجه نحو نصف سكان السودان، تحديدًا 24.6 مليون نسمة، من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

أُطلق نظام التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (IPC) بدعم من 21 مؤسسة دولية وأممية، مثل الفاو واليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة العمل الدولية، وغيرها. ويُحدد التصنيف ويقيس درجة الأزمة الغذائية في الدول المتأثرة استنادًا إلى نظام من خمس مراحل متفاوتة الشدة بدايةً من مرحلة "الحد الأدنى من الأمن الغذائي" نهاية بمرحلة "الكارثة أو المجاعة".

توضح هذه الخريطة من IPC، أن كافة مناطق السودان مهدد بانعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما يتصاعد الخطر الغذائي خاصة غربي البلاد

وتكشف نتائج لجنة مراجعة المجاعة (FRC) التابعة لـIPC عن زيادة قدرها 3.5 مليون نسمة عمّا كانت تتوقعه التحليلات لأعداد المهددين بانعدام الأمن الغذائي الحاد، خلال الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2024 ومايو/أيار 2025، لتكون النتيجة النهائية أكثر من 24.6 مليون إنسان ضمن المراحل الثلاثة الأعلى خطورة في تصنيف الأمن الغذائي، بينهم أكثر من 637 ألف إنسان في مرحلة كارثة المجاعة، و8.1 مليون إنسان في مرحلة الطوارئ الحرجة، أي أنهم الأكثر عرضة لتهديد المجاعة. 

ووفقًا لـIPC، فإن تدهور الأمن الغذائي في السودان بهذا الشكل، يعود بصورة مباشرة إلى تعطل الأنشطة الزراعية الناجم عن الحرب. ويشتمل تعطل الأنشطة الزراعية، ليس فقط تدمير المخازن والمنشآت والبنى التحتية الزراعية بصفة عامة، لكن أيضًا تدمير وحرق الأراضي الزراعية. 

إذًا، تكشف المشاهد الجوية وتحليل البيانات عن صور الانهيار غير المسبوق في أكبر قطاع اقتصادي في السودان، فخلال عام واحد فقدت البلاد ما يقارب نصف مساحتها المزروعة، وبات نصف سكانها تحد تهديد انعدام الأمن الغذائي الحاد، إلى جانب التهديدات الأخرى التي نشأت عن الحرب.

ولا تقتصر الكارثة على تراجع الإنتاج أو تقلص الرقعة الخضراء، بل تمتد إلى اختلالٍ أوسع في توازن الاقتصاد والبيئة والمجتمع، حيث ينهار أحد آخر القطاعات القادرة على تأمين الحياة في بلدٍ أنهكته الحرب.

اقرأ/ي أيضًا

المسلحون الأجانب في السودان: مسبار يكشف مسارات توريد المرتزقة الكولومبيين إلى قوات الدعم السريع

صورة الأقمار الصناعية من إبريل الفائت وليست بعد سيطرة الدعم السريع على الفاشر

المصادر

كلمات مفتاحية

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar