سياسة

بين التغطية والتضليل.. كيف يرسم الإعلام الألماني صورة 'العشائر العربية"؟

صفاء شرباصفاء شربا
date
3 نوفمبر 2025
آخر تعديل
date
5:58 ص
11 نوفمبر 2025
بين التغطية والتضليل.. كيف يرسم الإعلام الألماني صورة 'العشائر العربية"؟
يأخذ مصطلح العشائر العربية دلالات سياسية وجنائية في الإعلام الألماني | مسبار

في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد عام 2014، أصبح مصطلح "العشائر العربية" (Arabische Clans) من المفردات المتداولة بكثرة في الإعلام الألماني وتقارير الشرطة، فيُستخدم للدلالة على مجموعات من العائلات الكبيرة من أصول عربيّة أو تركيّة أو كرديّة على سبيل المثال، أو من أي أصول أخرى مهاجرة. غير أن هذا المصطلح تجاوز مع الوقت معناه الاجتماعي الأصلي، ليتحوّل في التقارير الصحفية إلى توصيف أمني يحمل في مضامينه دلالات على الجريمة المنظمّة والتهديد المجتمعي، وكأنه أصبح مرادفًا للفوضى وغياب النظام. فهل الصورة التي يرسمها الإعلام الألماني تعكس واقعًا موضوعيًا موثقًا بالأرقام، أم أنها مجرد سردية مضللة تُكرّس صورة نمطية سلبية عن العرب والمهاجرين؟

صورة تظهر غلافًا صحفيًا لأحد تقارير مجلة بيلد الألمانية BILD حول "العشائر العربية" في برلين

من هي "العشائر العربية" في ألمانيا؟

بداية وبالعودة إلى أصل تلك العائلات، فإن معظمها عبارة عن مجموعات عربيّة تركيّة كانت تقيم في مناطق الجنوب التركي، ثم هاجرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين إلى ألمانيا. استقر العديد منها في مدن كبيرة مثل برلين، وبريمن، ودويسبورغ، وإيسن، حيث شكّلت شبكات عائلية واسعة امتدت عبر أجيال متتالية.

بدأت هذه العائلات تحظى باهتمام الإعلام الألماني بعد وقوع عدد من الحوادث البارزة التي أثارت اهتمام الرأي العام، من بينها سرقة العملة الذهبية العملاقة "Big Maple Leaf" من متحف بودة في برلين عام 2017، وسرقة مجوهرات من متحف القبو الأخضر في دريسدن عام 2019، بقيمة قُدرت بنحو 113 مليون يورو. ارتبطت تلك العمليات بأسماء عائلات معينه منها الريمّو (Remmo) والزين (Al-Zein)، الأمر الذي غذّى بدوره سردية "العشائر الإجرامية" التي تبنتها بعض الصحف الشعبية مثل بيلد Bild وشبيغل Spiegel.

محمود الزين زعيم عشيرة الزين في ألمانيا

مع مرور الوقت، اتسع نطاق الخطاب الإعلامي المتعلق بـ "العشائر الإجرامية"، ليخرج من إطار الحديث عن أفراد متورطين في مخالفات قانونية، إلى تعميم يشمل شريحة واسعة من المهاجرين ذوي الأصول المتشابهة. فقد غدا مصطلح "العشائر" يُستخدم في نشرات الأخبار والتقارير الرسمية على نحو فضفاض، من دون تمييز بين من ارتكبوا جرائم فعلية ومن يعيشون حياة طبيعية ويحترمون القانون.

ويتجلّى هذا النمط بوضوح في العديد من المقالات والتقارير التي تبالغ في تناول أي حادثة جنائية يكون أحد أطرافها من أصول مهاجرة، فتتناولها بطريقة توحي للقارئ بأن جميع المهاجرين ينتمون إلى كيانات عشائرية ضخمة أو أنهم مجموعات متجانسة ذات سلوك إجرامي متوارث، متجاهلة بذلك الواقع المتنوع لغالبية هؤلاء الذين لا تربطهم أي صلة بمثل تلك الصورة النمطية.

ويحذّر باحثون في مجالي الإعلام والهجرة من أن هذا الخطاب يسهم في إعادة إنتاج صور نمطية واستشراقية قديمة عن العرب والشرق، ويغذّي لدى بعض فئات المجتمع الألماني مشاعر الخوف والريبة تجاه المهاجرين من خلفيات عربية، رغم غياب الأدلة العلمية التي تثبت أن هذه "العشائر" تشكل تهديدًا استثنائيًا للأمن العام.

"العشائر العربية".. من توصيف اجتماعي إلى خطاب أمني مؤدلج

أسهمت وسائل الإعلام الألمانية، عبر تغطياتها المكثفة لما يُعرف بـ "العشائر العربية" وربطها المتكرر بالجريمة المنظمّة، في تشكيل صورة نمطيّة راسخة عن المهاجرين المقيمين في ألمانيا. فبدلًا من التمييز بين أفراد متورطين في مخالفات قانونية وبين الأغلبية المندمجة في المجتمع، تبنّى الخطاب الإعلامي تعميمًا مفرطًا جعل الانتماء العرقي أو اللغوي علامة اشتباه اجتماعية.

في تقارير تلفزيونية حديثة تابعة للتلفزيون العام الألماني، مثل وثائقي قناة زد دي إف إنفو" (ZDFinfo)، تُوصف "العشائر العربية" بأنها تهديد للأمن العام والنسيج الاجتماعي، ويُقدَّم عالمها على أنه عبارة عن "شبكات غامضة يصعب اختراقها"، مع مبالغة في الأرقام وتجاهل للسياقات الاجتماعية. فتتكرر مثلًا عبارات من قبيل "ارتفاع معدل الجريمة" و"مناطق محظورة" في الكثير من المقالات والبرامج التلفازية على نحو لافت ومبالغ به، ما يعزز الخوف الجماعي لدى المشاهدين.

تقرير التلفزيون الرسمي الألماني عن "جرائم العشائر"

في نمط مشابه لما تقدمه زد دي إف إنفو" (ZDFinfo)، تتبنى قناة شبيغل تي في (Spiegel TV) في تقاريرها خطابًا دراميًا حول "العشائر العربية"، يتجلى عبر استخدام عناوين مثيرة مثل "عصابة عائلية قيد المطاردة" أو "سلالة إجرامية"، حيث يُصور التقرير أفراد هذه العائلات على أنهم مجرمون محترفون تشكل أصولهم وعلاقاتهم العائلية، وليس الوقائع الجنائية الفعلية بحد ذاتها، عامل الخطر الرئيس في قضاياهم. وتُركّز هذه البرامج على جنسيّة المتهمين وخلفياتهم الثقافيّة، لا لتقديم بُعدٍ صحفي للوقائع فحسب، بل لإضفاء طابع استثنائي على ما يُسمّى بـ "الجريمة الأجنبية" في المخيلة العامة.

تقرير لقناة شبيغل عن سلطة العشائر وعدم قدرة الشرطة أو القضاء الألماني على السيطرة عليها

تركيز الإعلام الألماني على جنسية المشتبه بهم

أظهر تقرير جديد نشره موقع دي تزايت Die Zeit، مبالغة الصحف الألمانية في التركيز على جنسية المشتبه بهم من الأجانب مقارنة بتمثيلهم الفعلي في الإحصاءات الجنائية. وفقًا لنتائج الدراسة، يُشار إلى أصل المشتبه بهم في نحو ربع التقارير التلفزيونية المتعلقة بجرائم العنف، وتبلغ نسبة الحالات التي يُذكر فيها أشخاص من أصول غير ألمانية 94.6%. أما في الصحف المطبوعة، فيجري ذكر الأصل في نحو ثلث التقارير، وتصل نسبة المشتبه بهم الأجانب إلى 90.8% من تلك الحالات، رغم أن نسبتهم في إحصاءات الشرطة الرسمية لا تتجاوز 34.3% فقط.

إن هذا التفاوت الحاد يعكس انحيازًا واضحًا في الخطاب الإعلامي، إذ يضخّم صورة الأجانب والمهاجرين كمصدر للجريمة ويجعل من الجنسية محورًا رئيسيًا للخبر، على حساب معالجة مضمون الحدث أو الجريمة نفسها.

كيف ساهم التهويل الإعلامي في ترسيخ نظرة الشك تجاه المهاجرين؟

يعتمد معظم المواطنين الألمان على وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف اليومية والقنوات الوطنية، بوصفها المصدر الأكثر صدقية للأخبار والمعلومات الدقيقة، مقارنة بالإنترنت أو شبكات التواصل الاجتماعي. وبذلك، تظل توجهات الرأي العام الألماني رهينة السرد الإعلامي والسياسات الحكومية، ولا سيّما عند تناول القضايا ذات الحساسية العالية في المتجمع الألماني في الآونة الأخيرة، كالهجرة والجريمة والأمن المجتمعي.

هذا الخطاب الإعلامي لم يمرّ مرور الكرام، بل ترك بصمته العميقة على تصوّرات الألمان تجاه المهاجرين، وعلى المهاجرين أنفسهم في حياتهم اليومية. فقد أصبحت نظرات الشكّ والريبة ترافق كل من يحمل اسمًا عربيًا أو ينحدر من أصول مهاجرة، سواء في المدرسة أو مكان العمل أو حتى أثناء البحث عن سكن.

وتشير دراسات حديثة إلى أن هذه النظرة النمطية دفعت بعض الشباب والنساء إلى إخفاء هوياتهم الثقافية، أو تعديل أسمائهم لتجنّب التمييز الاجتماعي السلبي. كذلك تواجه النساء العربيات على وجه الخصوص شكلًا مضاعفًا من الإقصاء، إذ يُربط الاسم العربي مباشرة بالدين، ما يجعل منه حاجزًا غير مرئي أمام فرص التوظيف والاندماج المهني والاجتماعي.

دراسة حديثة تُظهر انخفاض نسب القبول في فرص العمل داخل الشركات الألمانية بتأثير الاسم والخلفيّة العرقيّة أو الثقافيّة

كذلك تتجلى آثار هذا الخطاب في التغيرات الحاصلة في اتجاهات الرأي العام. فوفقًا لاستطلاع نُشر في مجلة بيلد الألمانية، يعتقد نحو 71% من الألمان أن الهجرة من دول ذات أغلبية مسلمة تُشكل خطرًا أمنيًا على البلاد، وهي نتيجة تعكس مدى تأثير التغطية الإعلامية على وعي الجمهور، وترسّخ فكرة أن العرب يمثلون كتلة متجانسة ذات طابع ديني ثقافي "يصعب اندماجه" في المجتمع الألماني.

هذا النمط من التناول الإعلامي لا يصنع فقط تصورًا زائفًا للواقع، بل يُعيد إنتاج دورات من الخوف والتمييز والتهميش داخل المجتمع الألماني، ويُضعف فرص الحوار المتبادل والتفاهم الحقيقي بين المهاجرين والمجتمع المضيف.

استطلاعات التلفزيون الألماني DW تُظهر تراجع شعور اللاجئين بالترحيب وتقبُّل المجتمع الألماني لوجودهم في الأعوام الأخيرة

بين الصورة النمطية والواقع: سياسات الاندماج تكشف حقائق مغايرة في ألمانيا

على الرغم من التصعيد الإعلامي والسياسي المتواصل حول ما يُسمى بـ "جرائم المهاجرين"، تُظهر الإحصاءات الرسمية في ألمانيا صورة مغايرة تمامًا. فبحسب بيانات الشرطة الجنائية الفيدرالية (BKA)، لا تتجاوز نسبة الجرائم المنسوبة إلى ما يُعرف بـ “العشائر" 1% من إجمالي الجرائم المسجلّة، فيما تؤكد الدراسات أن الغالبية الساحقة من أبناء العائلات ذات الأصول المهاجرة لا تربطهم أي علاقة بسلوك إجرامي منظم. هذا التباين بين الواقع والخطاب الإعلامي يكشف كيف تحوّل مصطلح "العشائر" في الإعلام من توصيف اجتماعي إلى رمز للخطر، يُغذّي الخوف والتمييز أكثر ما يعكس واقعًا موضوعيًا.

في المقابل، فإن الحرمان من فرص التعليم والعمل، أو الإقصاء القانوني والاجتماعي، يسهم في تعزيز الانعزال ويهيئ الأرضيّة لنشوء سلوكيات منحرفة داخل مجموعات صغيرة مهمّشة. ويؤكّد الباحثون في علم الاجتماع أن المشكلة لا تكمن في "ثقافة المهاجرين" بحدّ ذاتها، بل في العوائق البنيويّة التي تواجههم مثل التمييز في سوق العمل، وصعوبة الحصول على السكن، والمدة الطويلة التي يقضونها بانتظار البت في طلبات اللجوء.

وفي هذا السياق، تُظهر دراسة صادرة عن معهد ifo للاقتصاد (2019) بعنوان Do Immigrants Affect Crime Evidence from Panel Data for Germany، أنه لا توجد علاقة ذات دلالة إحصائية بين ارتفاع نسبة المهاجرين وزيادة معدلات الجريمة في ألمانيا خلال الفترة 2003–2016. كما يؤكّد تحليل حديث للمعهد نفسه (2025) أن ارتفاع عدد الأجانب لا يؤدي إلى ارتفاع معدل الجريمة، وأن العامل الحاسم هو مستوى الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، لا الأصل أو الخلفية الثقافية.

يُظهر الرسم البياني تراجع معدّل الجريمة في ألمانيا خلال السنوات الأخيرة رغم تزايد أعداد المهاجرين

اقر/ي أيضًا

أبرز الأخبار المضلّلة حول اللاجئين والمهاجرين خلال الأشهر الفائتة

اليمين المتطرف.. التضليل كأداة لترويج صور نمطية وعنصرية ضد المهاجرين

المصادر

اقرأ/ي أيضًا

الأكثر قراءة

مؤشر مسبار
سلّم قياس مستوى الصدقيّة للمواقع وترتيبها
مواقع تم ضبطها مؤخرًا
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
publisher
عرض المواقع
bannar